منير الربيع – المدن
يوم قرر الرئيس الأميركي دونالد ترامب تنفيذ عملية اغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني، في العراق، كان ذلك مؤشراً على توجيه ضربة أميركية قاسية للدور الإيراني في المنطقة. أرفقت عملية الاغتيال بالكثير من التشديد الاقتصادي على إيران، وعلى الدول الحليفة لها أو الواقعة تحت سيطرتها وقبضتها. كما أن حلفاء إيران تعرضوا للكثير من العقوبات في سياق تحجيم أدوارهم أو تغيير سلوكهم. ولطالما صرّح المسؤولون الأميركيون من كلا الحزبين بأنهم لا يريدون إسقاط النظام الإيراني بل تغيير سلوكه. فكان اغتيال سليماني في سياق السعي لتغيير السلوك.
في الولايات المتحدة الأميركية لوبي إيراني فاعل وضاغط، وله حضوره في الأوساط المختلفة المتصلة بالدولة الأميركية العميقة. ينظر الكثير من الغربيين إلى إيران بوصفها حضارة قديمة، ودولة كبيرة لا يمكن استثناؤها ولا تغييب دورها، لكن المطلوب هو استقطابها لتكون حليفة للغرب، لا سيما في إطار الاستراتيجية الأميركية، المرتكزة على مواجهة الصين ومشاريعها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية. فإيران تشكل مركز محوري في مشروع الصين، مثلما هي موقع محوري مأمول في أي مشروع أميركي لتقويض الصين. ولطالما سعت إيران إلى الموازنة ما بين الدولتين العظميين، ولا تزال.
رؤية إيرانية جديدة
في إيران اليوم جهات عديدة من داخل بنية النظام، تسعى إلى إعادة التقارب والتفاهم مع الولايات المتحدة الأميركية. وهو المسار الذي يسلكه الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان وكبير مستشاريه محمد جواد ظريف. وهم الذين يطلق عليهم في الداخل الإيراني بأنهم “مجموعة نيويورك”. في هذا السياق، تأتي المواقف الإيرانية ولا سيما ما يكتبه ظريف في الصحف الأميركية، وآخرها مقالته في “الفورين أفيرز”. ويقول ظريف في مقالته إن بزشكيان يريد الاستقرار والتنمية الاقتصادية في الشرق الاوسط، وهو يريد التعاون مع الدول العربية المجاورة وتعزيز العلاقات مع حلفاء إيران. ولكنه يريد أيضاً الانخراط بشكل بناء مع الغرب، وحكومته مستعدة لادارة التوترات مع الولايات المتحدة، والتي انتخبت للتو رئيساً جديداً. ويأمل بزشكيان في مفاوضات متساوية فيما يتعلق بالاتفاق النووي وربما أكثر من ذلك.
ويضيف ظريف: “فرؤية إيران تتوافق مع مصالح الدول العربية، التي تريد جميعها أيضاً منطقة أكثر استقراراً وازدهاراً من أجل الأجيال القادمة. وبالتالي، ينبغي لإيران والعالم العربي أن يتمكنا من العمل من خلال حل خلافاتهما. ومن الممكن أن يساعد دعم إيران للمقاومة الفلسطينية في تحفيز مثل هذا التعاون. فالعالم العربي، بعد كل شيء، متحد مع إيران في دعمها لاستعادة حقوق الشعب الفلسطيني”.
تنطوي مضامين المقالة على رؤية إيرانية جديدة للوضع الإقليمي ككل وللعلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية والغرب. يأتي ذلك على وقع أكبر حرب تخوضها إسرائيل في المنطقة، وهي حرب تريد من خلالها تحقيق أكبر عملية تهجير وتغيير ديمغرافي في فلسطين، والقضاء على القضية الفلسطينية. في ظل الحروب التي قد تتخذ بعداً طائفياً أو عرقياً في سوريا أيضاً، في ضوء تجدد المعارك. وهو ما حصل في العراق سابقاً.
تجنب الحروب
الرؤية الإيرانية الجديدة، ترتكز على مواجهة هذا المشروع الإسرائيلي، مع تركيز إيران على تجنب الدخول في حرب أو مواجهة كبيرة مع إسرائيل، ما سيستدرج الولايات المتحدة الأميركية إليها أيضاً، وهو ما لن تكون إيران قادرة على مجابهته. ذلك لا بد أن يُقابل بتقديم نموذج إيراني جديد. فكما كان الهدف من اغتيال سليماني هو تغيير الدور والسلوك، فبلا شك أن اغتيال أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله، بما يمثله ويرمز إليه، يشير إلى سعي لطي مرحلة أساسية من تاريخ المنطقة، والانتقال إلى مرحلة جديدة على مستوى الإقليم وليس على مستوى لبنان فقط. وهو ما التقطته إيران، التي تعيد تفعيل مفاوضاتها مع الأوروبيين، وتواصلها المباشر وغير المباشر مع الولايات المتحدة الأميركية، وخصوصاً مع الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب.. وسط معلومات عن بدء مفاوضات مباشرة بين الطرفين حول ملامح المرحلة المقبلة، التي يفترض بها أن تنتج تفاهماً أميركياً إيرانياً، يستند على المشروع النووي السلمي، ترتيب مناطق النفوذ الإيراني في المنطقة، تراجع إيران عن فرض النفوذ بالقوة العسكرية، وتحويل حلفائها من قوى عسكرية متنقلة ومتفلتة وتتمتع بقوة ذات تأثير إقليمي، إلى انكفائها داخل دولها، وتغليب المسار السياسي بدلاً من المسار العسكري. وهو ما يُراد فرضه في سوريا والعراق أيضاً، كما هو الحال بالنسبة إلى الخطاب الذي أطلقه أمين عام حزب الله الشيخ نعيم قاسم، وحدد فيه معالم المرحلة المقبلة.
تراهن إيران على مصالحتها مع الدول العربية، ولا سيما مع المملكة العربية السعودية، وعقد اجتماعين لمنظمة دول التعاون الإسلامي بناء على طلب إيراني، لأجل تعزيز “التكامل الإقليمي”. وهو ما يمكن البناء عليه في إطار فرض رؤية على الرئيس الأميركي دونالد ترامب حول ملفات المنطقة وعلى رأسها القضية الفلسطينية، انطلاقاً من التعاون العربي الإيراني، أو التعاون الإسلامي، في محاولة للضغط على الأميركيين ومنعهم من الذهاب باتجاه تحقيق كل ما تريده إسرائيل.