تهجس القيادة الإيرانية بما سوف تعكسه سلباً عليها جولة الرئيس الأميركي جو بايدن في الشرق الأوسط، حيث يزور، بين الثالث عشر والسادس عشر من تموز (يوليو) المقبل كلّاً من إسرائيل والضفة الغربية والمملكة العربية السعودية التي تنظّم اجتماعاً خليجياً-عربياً، سوف يُشارك فيه.
ولا تجانب القراءة الإيرانية لانعكاسات جولة بايدن الواقع، إذ إنّ جميع المطّلعين على التحضيرات الناشطة في كواليس صناعة القرار يدركون أنّ العمل جار على قدم وساق من أجل وضع اللمسات الأخيرة على صياغة استراتيجية كاملة ومتكاملة لمواجهة إيران.
ووفق السيناريوهات التي ترسمها القيادة الإيرانية فإنّ هذا التحالف سوف يضم مصر والأردن وتركيا والسعودية وإسرائيل، في ظلّ نشاط يهدف الى إقناع باكستان بالإنضمام إليه، لاحقاً.
ولا تخرج إعادة تطبيع العلاقات بين السعودية وتركيا وإزالة الشوائب من العلاقات بين السعودية وباكستان وتزخيم التعاون بين السعودية ومصر والأردن، عن هذا السياق.
وكان قد واكب كلّ ذلك تفعيل العلاقات بين مصر وإسرائيل اللتين أصبحتا، مؤخّراً، بالتضامن والتكافل، شريكتي الإتحاد الأوروبي “الغازيتين”، ورفد “إتفاقيات إبراهيم” بين إسرائيل من جهة والإمارات العربية المتحدة والبحرين والمغرب، من جهة أخرى بترجمات مذهلة حيث اختلط التعاون الاقتصادي والتكنولوجي بالسياحي والأمني.
ولا يمكن، في هذا السياق، إغفال الأداة القانونية المهمة التي يعمل عليها الكونغرس الأميركي، من أجل إفساح المجال أمام الإدارة الأميركية، من أجل أن تكون شريكة فاعلة في هذا التحالف، لجهة دعم “القبّة الحديدية”، بعد إدخال التطويرات اللازمة عليها، لتشمل كلّ الدول التي يمكن أن تتهدّدها الصواريخ و”الدرونز” الإيرانية، سواء أكان مصدرها إيران أم الدول التي تأوي أذرع إيران.
وكان وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس قد كشف عن أن إسرائيل والولايات المتحدة وحلفاء إقليميين أقاموا تحالفا دفاعيا جوياً وقال، خلال جلسة للكنيست إنّ “ما يسمى برنامج الدفاع الجوي للشرق الأوسط الذي تم تطويره العام الماضي، يعمل بالفعل لحماية إسرائيل وجيرانها من الهجمات بالصواريخ وصواريخ كروز والطائرات المسيرة”.
وذهب الملك الأردني عبد الله الثاني، في مقابلة تلفزيونية أجراها قبل يومين، أي غداة اجتماعه مع ولي العهد السعودي الأمير محمّد بن سلمان في عمان، إلى أبعد من ذلك إذ أعلن أنّ العمل جارٍ بغية تكوين “ناتو” خاص بالشرق الأوسط “.
ويندرج هذا التوجّه الإستراتيجي، في سياق خطّة عمل ميدانية ضدّ إيران التي تعيش إحباطاً متزايداً بسبب النجاحات الظاهرة في اختراق تنظيماتها الأكثر سريّة والأكثر أهمية والأكثر فاعلية.
وفي إيران وخارجها ثمّة من يظن أنّ هذه الخروق ما كانت ممكنة لولا “تحالف مخابراتي” واسع تتبنّى إسرائيل نتائج أعماله.
وما إقالة رئيس جهاز استخبارات “الحرس الثوري الإيراني” حسين طائب، قبل أيّام قليلة، إلّا ترجمة مباشرة لهذا الإحباط.
وثمّة توقّعات بأن تشهد المرحلة المقبلة رفعاً لمستويات الضغوط على إيران، في ظلّ عدم قدرة الصين على التخفيف من حدّتها باستيعابها الكميات السابقة من المواد النفطية التي كانت تستوردها من إيران، لأنّها باتت تستورد نسبة كبيرة من الفائض الروسي، بعد تراجع صادرات موسكو الى دول الإتحاد الأوروبي، نتيجة استراتيجة “الضغط المتبادل” الذي فتحه الغزو الروسي لأوكرانيا على مصراعيه.
ويأتي كلّ ذلك، وسط وصول الأزمات المالية والإقتصادية والإجتماعية في إيران الى أكثر مستوياتها رداءةً، الأمر الذي ينعكس، بشكل يومي، وفي مجمل المحافظات، تظاهرات قطاعية وشعبية تنال من القيادة الإيرانية ورموز النظام، وفق وتيرة تُذكّر بالتمهيدات التي سبقت الإطاحة بالشاه.
ولكن، كيف سوف ترد إيران؟
في الواقع، هناك مستويان من التفكير في إيران.
المستوى الأوّل تضغط لمصلحته شرائح واسعة من الشعب الإيراني بدعم سياسي وإعلامي كبيرين من “الإصلاحيين”.
ويطالب هؤلاء بأن تُسقط إيران مطلبها “المستحيل” الرامي الى شطب “الحرس الثوري الإيراني” عن قائمة التنظيمات الإرهابية الأميركية، والعودة فوراً الى “الاتفاق النووي”.
والتبريرات التي يوردها هؤلاء تقوم على أنّه من غير الجائز ربط المصالح الحيوية للشعب الإيراني الذي يعاني الأمرّين بمصلحة “الحرس الثوري الإيراني” الذي انتقل من موقع السخرية على قرار إدراجه في قائمة الإرهاب “لأن لا تأثير يُذكر له”، الى موقع اعتبار هذا القرار “خطراً كبيراً” لا بدّ من التراجع عنه.
ويجد هؤلاء أنّ القيادة الإيرانية، بنهجها المتشدّد، لا تأخذ الإيرانيين الى التهلكة فحسب، بل تحوّل إيران، في نظر جيرانها، إلى دولة عدوّة بينما تجعل إسرائيل دولة صديقة للدول التي كانت تعتبرها عدوّاً لدوداً، أيضاً.
وعلى هذه النوعيّة من الضغوط يُراهن مسؤول السياسة الخارجية في الإتحاد الأوروبي جوزيب بوريل الذي حطّ في طهران، أمس، لإنجاح مسعاه “المدعوم” الهادف الى ضخّ الحياة في المفاوضات المتعثّرة الهادفة الى إحياء “الاتفاق النووي”.
أمّا المستوى الثاني، فتعبّر عنه القيادة الإيرانية التي يدعمها “الحرس الثوري الإيراني”.
وعلى هذا المستوى يعمل هؤلاء على بلورة خطّة مواجهة، تقوم على إعادة تصليب “محور الممانعة” في الشرق الأوسط، الأمر الذي يُفسّر وصول محاولات رأب الصدع بين حركة “حماس” والنظام السوري الى مستويات متقدّمة جداً، والكلام المتكرّر للأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله الذي استقبل في بيروت، يوم الخميس الماضي، رئيس المكتب السياسي لـ “حماس” إسماعيل هنيّة، عن أنّ أيّ حرب مقبلة مع إسرائيل لن تكون ثنائية بل ستكون جماعية، بحيث تشترك فيها كلّ قوى “محور الممانعة”.
وقد تمظهر الميل الى المواجهة بخطوات إيرانية كثيرة ومنها، على سبيل المثال لا الحصر: “تحرّش” ثلاثة قوارب إيرانية سريعة تابعة ل”الحرس الثوري الإيراني” بسفينتين عسكريتين أميريكيتين في مياه الخليج، ومحاولة استهداف سيّاح إسرائيليين في تركيا، والحديث الإيراني عن التفكير بإمكان الانسحاب من معاهدة الحد من انتشار الاسلحة النووية، في ظلّ إعلان طهران عن تعزيز تخصيب اليورانيوم في منشأة “فوردو”، والإيحاء الإيراني بالقدرة على “الردع المخابراتي” من خلال الحديث عن قيام أجهزتها الأمنية المختصة ب”عمليات سريّة”.
وقد وضع المراقبون، في هذا السياق التصعيدي، إقدام “الحوثيين” في اليمن على ارتكاب عشرات الخروق للهدنة الأممية المعلنة، والهجومات الصاروخية المنسوبة الى ميليشيات إيرانية في العراق تستهدف حقول غازية تابعة لشركة “دانة” الإماراتية في شمال البلاد، واتّهام الجيش الإسرائيلي للجيش اللبناني وقوات “يونيفيل” في جنوب لبنان بغض النظر عن إقامة “حزب الله” مراكز مراقبة عدّة، في نقاط حدودية متقدّمة.
كلّ هذا يعني أنّ إيران أصبحت أمام ثلاثة خيارات: إمّا الذهاب الى عزلة شاملة، وهذا ما يُمكن أن يُحدث ثورة شعبية، بسبب النتائج الكارثية على الإيرانيين المنهكين، أو التنازل عن الشروط المستحيلة والعودة الى الاتفاق النووي، وفق الصيغة شبه النهائية التي كان المفاوضون قد توصّلوا إليها في فيينا وحملها بوريل الى طهران، أو الذهاب الى مواجهة يُمكن أن تؤذي دول المنطقة ولكنّها بالتأكيد سوف تنتهي الى هزيمة إيرانية كبرى.
ومهما كان عليه الإتجاه الذي سوف تعتمده طهران، فإنّ الدول التي حوّلتها أذرع إيران الى كيانات هشّة، كما هي عليه حال لبنان، سوف تدفع الثمن غالياً، ليس لأنّها أعجز من أن تعود الى محيطها العربي الطبيعي الذي يُصلّب نفسه، فحسب بل لأنّها قاصرة حتى عن منع نفسها من أن تكون “متراساً” لمصلحة “الخطط اليائسة” ل”الحرس الثوري الإيراني”، أيضاً.