قد تخلو موازنة 2024 من الإيجابيات إذا ما استثنينا إقرارها ضمن المهل الدستورية، لما في ذلك من إهمية على مستوى الانتظام المالي في عملية الإنفاق، بدلاً من اعتماد القاعدة الإثني عشرية الملتبسة قانوناً. فموازنة 2024 أقرت اليوم في جلسة مجلس النواب ضمن مهلها الدستورية، بتعديلاتها وثغراتها وانفصالها كلّياً عن المواد الإصلاحية، على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، حتى الإصلاح الضريبي لم ينل حيّزاً في موازنة 2024.
علامة فارقة واحدة تميزت بها أيضاً موازنة 2024، ورود مادة في متنها تقضي بحظر إعطاء سلفات خزينة خلافاً لأحكام قانون المحاسبة العمومية التي ترعى إعطاءها، وتحميل المخالف تسديد السلفات بأمواله الخاصة وإحالته على القضاء المختص. ما يقلّص احتمالات الصرف غير الشفاف والمخالف للقوانين.
لا قطع حساب لا شفافية
ولعل أبرز ما اتسمت به موازنة 2024 هو غياب قطع الحساب. وبذلك تبقى عمليات الإنفاق غير شفافة وغير موثقة، حتى أن الدولة تفتقد لأرقام مدققة ونهائية عن إيرادات ونفقات موازنات 2021 و2022 و2023. كما أن وزارة المال لا تملك الأرقام، لأنها توقفت عن إدخالها على النظام المالي للوزارة منذ عام 2019. أما موازنة 2024، فلا تتمتع بمبدأ الشمول والشيوع. فلا القروض أدخلت فيها ولا نفقات الهيئات والمؤسسات والمجالس التي تعمل لصالح الدولة.
باختصار، تحول مشروع موازنة 2024 من مشروع عاجز بقيمة 17 ألف مليار ليرة إلى مشروع يضم إيرادات بقيمة 320 ألف مليار ليرة ونفقات 295 ألف مليار ليرة بفعل تعديلات لجهة الإيرادات والنفقات.
التعديلات الضريبية
أما الإيرادات التي ساهمت بدفع موازنة 2024 إلى تقديرها بصفر عجز، فتقوم على سلسلة طويلة من التعديلات الضريبية التي تغيب عنها أي أبعاد اقتصادية. بل تقتصر على تأمين مزيد من الإيرادات لصالح الخزينة العامة، من دون مراعاة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وقدرة الاقتصاد على التمويل، وقدرة المواطنين على التحمل. ما يجعل من تلك السلة الضريبية غير مضمونة النتائج والإيرادات، في ظل التهرب الضريبي المستمر، وعدم اتخاذ أي إجراءات فعلية للجم التهرب.
ولم يفت وزارة المال إدراج مجموعة من التسويات الضريبية للمتخلفين عن سدادها، كما جرت العادة في كل موازنة عامة، حتى باتت مسألة التهرب الضريبي والتخلف عن السداد، أشبه بنهج معتمد من قبل مجموعة من المكلفين، لاسيما منهم أصحاب الرساميل والمؤسسات الذين تطالهم التسويات الضريبية كل عام.
ومن بين الضرائب والرسوم المعدلة في موازنة 2024 فرض رسم خروج على المسافرين بطريق الجو أو البحر ورسم دخول على غير اللبنانيين على الشكل التالي:
35 دولاراً عن كل مسافر من الدرجة السياحية.
50 دولاراً على كل مسافر من درجة رجال الأعمال.
65 دولاراً على كل مسافر من الدرجة الأولى.
100 دولار على كل مسافر على متن طائرات أو يخوت خاصة.
فرض رسم على المنتجات المستوردة من التبغ والتنباك والسيجارة الإلكترونية على الشكل التالي:
11500 ليرة عن كل علبة سجائر تحتوي 20 سيجارة عادية أو إلكترونية.
115 ألف ليرة على الكيلوغرام الواحد من التبغ المعسل وتبغ النرجيلة.
20 في المئة من سعر مبيع السيجار بالمفرق.
كما تمت مضاعفة ضريبة الدخل على الرواتب والأجور بنحو 60 ضعفاً، وتم اعتمادها على أساس سعر الصرف الفعلي للدولار أي 89500 ليرة. بالمقابل، قامت الموازنة بمضاعفة تعويضات نهاية الخدمة قبل تاريخ 31 كانون الأول 2023 بنحو 10 مرات. ليتم احتسابها على أساس قيمة الدولار 15000 ليرة. وهذا التعديل لا يشمل الرواتب المدولرة فقط، بل الرواتب بالليرة أيضاً، التي ستتم مضاعفتها 10 مرات فقط. وهو ما لا يتناسب وحجم مضاعفة الضريبة.
ومن التعديلات الضريبية أيضاً فرض رسوم على المنتجات الكحولية المنتجة محلياً، ورسوم على كافة المعاملات الشخصية لدى المخاتير. كما تمت مضاعفة الرسوم البلدية بين 10 و20 مرة حسب ارتفاع الوحدة السكنية.
ومن التعديلات المعيبة في موازنة 2024، تعديل الأحكام الخاصة المتعلقة بإيرادات رؤوس الأموال المنقولة الأجنبية الخاضعة لقانون ضريبة الدخل.
وبدلاً من إحالة جميع المكلفين الذين لم يصرحوا ويسدّدوا الضرائب المتوجبة عليهم ضمن المهلة المحددة إلى النيابة العامة المالية، بجرم التهرب الضريبي، والحجز على أملاكهم، كما كان وارداً في الصيغة الأساسية من الموازنة.. جاءت تعديلات الموازنة لتتساهل مع المتهرّبين ضريبياً وغير المصرحين عن أموالهم. وورد فيها الآتي “يعطى الأشخاص الطبيعيون والمعنويون المقيمون في لبنان الذي يخضعون لأحكام المادة 82 من قانون ضريبة الدخل مهلة مدتها 6 اشهر من تاريخ نشر هذا القانون، للتصريح وتسديد الضريبة عن إيرادات رؤوس الأموال المنقولة على اختلاف أنواعها، التي حصلوا عليها من الخارج، ولم تسقط بعامل مرور الزمن، ولم يصرحوا عنها، ويسددوا الضريبة المتوجبة عليها ضمن المهل القانونية من دون أن تفرض عليهم أي غرامة تحقق أو تحصيل”.
ومن بين التسويات أيضاً إجراء تسوية على التكاليف غير المسددة، المتعلقة بضريبة الدخل وبالضريبة على القيمة المضافة المقدمة أمام لجان الاعتراضات. وخلافاً لأي نص وبصورة استثنائية، يمكن للمكلفين إجراء تسوية على التكاليف غير المسددة المتعلقة بالضريبة على الدخل وبالضريبة على القيمة المضافة المعترض عليها أمام لجان الاعتراضات. وتحدد قيمة التسوية بـ50 في المئة من قيمة الضرائب المعترض عليها، وتنزل قيمة غرامات التحقق والتحصيل المتوجبة.
ومن الرسوم المعدّلة أيضاً رسوم الجامعة اللبنانية التي لم يتم تحديدها. وجاء في إحدى مواد الموازنة بأنه يناط بمجلس الجامعة تعيين الرسوم السنوية وسائر الرسوم وبدلات استعمال مرافق الجامعة، التي تستوفى في مختلف وحداتها، على أن يخضع هكذا قرار لمصادقة وزير التربية والتعليم العالي ووزير المالية.
ويضاف ذلك إلى دولرة العقود التجارية، وتعديل رسوم الوثائق الشرعية ورسوم القرارات والاحكام الجزائية، وكافة الرسوم القضائية. ورفع رسوم بطاقات دخول صالات الألعاب في كازينو لبنان، وتعديل رخص السوق ولوحات التسجيل ورسوم السير، ومضاعفة قيمة الغرامات في قانون السير وغيرها من الرسوم.
أبرز المواد الملغاة
في المقابل، تم إلغاء مواد من موازنة 2024 من قبل مجلس النواب يوم الجمعة، منها المادة 14 التي تنص على خضوع كل شخص طبيعي أو معنوي للضريبة على القيمة المضافة، عندما يقوم بتنظيم حفلة فنية أو موسيقية حتى قبل تحقيقه أي رقم أعمال.
ميقاتي يدافع عن الموازنة
وكان رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي قد ألقى كلمته قبل البدء بالتصويت على الموازنة، معترفاً بأنها ليست الموازنة المثالية “لكنها موازنة تتماهى مع الظروف الاقتصادية والأمنية والاجتماعية والدولية التي يمر بها لبنان”.
وعلى الرغم من قتامة المشهد الاقتصادي، أصر ميقاتي في كلمته على أن “مشروع قانون موازنة 2024، يعالج أولويات الحكومة ويؤسس لبدء التعافي من أثر الأزمات الخانقة التي عاشتها البلاد في السنوات الأخيرة، واستكمال ما تم تحقيقه مع موازنة 2022 لناحية توحيد سعر الصرف، تعزيز الواردات وإزالة الضغوطات التمويلية عن المصرف المركزي، وذلك تمكيناً للاستقرار المالي والنقدي الذي توصّلنا إليه تدريجياً خلال العام المنصرم”.
جاهر ميقاتي بأن الحكومة “استطاعت وقف الانهيار وبدأت بالتعافي الجاد”، مستشهداً بأن لدى الحكومة في الحساب 36 في مصرف لبنان أكثر من 100 ألف مليار ليرة نقداً، ولديها أكثر من مليار دولار، منها 150 مليون فريش و850 مليون لولار.
اعترف ميقاتي بالحاجة إلى إصلاحات، مدّعياً العمل على إعادة النظر بقانون الإصلاح الضريبي وإصلاح الجمارك، وإعادة النظر في قانون المحاسبة العمومية، وكذلك إصلاح الإدارة العامة ومكننتها.