منير الربيع – المدن
هذا غيض من فيض ما يقال عن زعماء لبنان وساسته وأهله في دوائر عربية وغربية. وأصبحت كلمة “دعوا لبنان ينهار” عادية في الأسماع المحلية والخارجية. وعادية على شفتي أي مسؤول عربي وغربي.
انتقام من لبنان؟
قلة هم الذين لا يريدون للنموذج اللبناني أن يتغير، يتفسخ ويتحلل. فدول المنطقة في معظمها تتجه إلى استنساخ هذا النموذج في نظام مقاطعاتها الطائفية والعرقية. لكن قد يكون ما يُراد تغييره عميقاً في لبنان، اقتلاعه أو وقتله، وفي ما يشبه الانتقام، إنما هو شعور اللبنانيين القديم بالتميّز والتمايز، ذاك الذي بلغ حدّ العجرفة المتطيرة والنزعة التفوقية المتضخمة لدى بعض الفئات اللبنانية.
وفهم اللبنانيين للحرية غلب عليه تضخم بدائي فوضوي وشبه عشائري للأنا الفردية والجمعية. فصار التشاطر و”الفهلوية” هما الحرية الاجتماعية والسياسية في وعي اللبنانيين وسلوكهم. والساسة اللبنانيون، تاريخياً، كانوا ولا زالوا يتشاطرون على محيطهم، وينظرون إلى أنفسهم كلاعب دولي وإقليمي مؤثر ومغير في المعادلة. وعندما يتقدم أحدٌ ما منهم طالباً المساعدة، غالباً ما يستسهلون تحويله إلى مستجدٍ تجوز عليه المساعدة.
التشاوف والتدمير الذاتي
ربما تسهم هذه المركبات اللبنانية، وسواها من أمثالها، في السقوط اللبناني الكبير الراهن. وهو سقوط لم يقتصر على تعطيل مؤسسات الدولة كلها، تدميرها وتحويلها إلى أقل من مجلس بلدي في قرية نائية. فقد يكون انقلب التشاوف اللبناني إلى ما يشبه تدميراً ذاتياً. وهذه ربما نزعة كان التشاوف نفسه ينطوي عليها.
وفي هذا المعنى ربما، يجري اليوم تدمير نظرة اللبنانيين إلى أنفسهم كمتفوقين على محيطهم. وهذا ما يدفعهم إلى دفع ثمن نزعتهم المتضخمة هذه مضاعفاً. فالانهيار الاجتماعي والمالي والاقتصادي والسياسي، سينعكس نفسياً على طبيعة اللبنانيين، الذين سيجدون أنفسهم بين خيارات مرّة: الهجرة، أو العيش في فقر وتغيير نمط حياتهم جذرياً.
وذلك يرتبط بمسألتين أساسيتين: الموقف الخليجي النفسي والاجتماعي من لبنان، في موازاة الموقف السياسي. فتاريخياً نظر اللبناني إلى الخليجي على أنه أقل منه ثقافة وعلماً. وعمل اللبناني على تقديم هذه النظرة مغلفة بشكل جميل مزين ومبهرج، ولم يتفوق أحد على اللبنانيين في هذه البهرجة. وهذا ما ولّد شعوراً خليجياً وعربياً بالغبن، حيال ما تكلّفه وتستنزفه هذه البهرجة اللبنانية من مال خليجي (وكان حافظ الأسد ونظامه قد ابتزا دول الخليج أمنياً في لبنان وسياسياً في القضية الفلسطينية). وقد يكون حلّ اليوم وقت نهاية البهرجة اللبنانية، مثلما انتهى زمن الابتزار السوري الأسدي.
الفرص الضائعة
وقد نكون نعيش اليوم مراسم دفن العصر الذهبي الذي عاشه لبنان، في علاقته بدول الخليج، وخصوصاً تلك العلاقة التي كانت ترتكز على المقومات السياحية اللبنانية وتتجاوزها إلى جملة من القطاعات، كالاستشفاء والتعليم والمصارف، وسائر الخدمات إلى جانب الاستقرار والازدهار السياسي.
اليوم أصبحت هذه المقومات كلها رملاً وتراباً. وها لبنان يعيش عزلة اجتماعية وسياسية عن أغلب دول الخليج، والدول العربية الأخرى والغرب. وحتى الأمس القريب كان هناك توجه دولي للمساعدة في منع انهيار لبنان. كذلك توجه عربي تقوده مصر التي تريد الحفاظ على بنية الدول المركزية في منطقة الشرق الأوسط. وإلى جانب مصر كانت هناك بعض الدول الأوروبية، بينها فرنسا، التي أبدت استعدادها لتقديم جزء من المساعدات للبنان في حال تشكلت حكومة. وهي مساعدات لن تكون قادرة على إصلاح الوضع، لكنها تمنع الإنهيار التام.
ولكن هذه المحاولات فشلت كلها، وأصبحت كلمة “دعوا لبنان ينهار” متداولة بقوة في دوائر عربية ودولية. ولا أحد يمتلك جواباً عن الجهة التي ستكون مستفيدة من هذا الانهيار.
الخوف على الجيش
لكن التغير والتحول الجيوستراتيجي الذي تعيشه المنطقة، سيكون للبنان حصة منه. وقد لا تتعلق بالتقسيم أو تطييف المؤسسات الحاصلين أساساً في لبنان.
فما يجري في المحيط هو استنساخ النموذج اللبناني. وتداعيات هذه التحولات ستكون سياسية: وجهة لبنان بنيوياً لجهة الانهيارات في المؤسسات والقطاعات كلها. من القطاع المصرفي والمالي إلى مؤسسات الدولة، وصولاً إلى القضاء والنزاع فيه وعليه.
ويبقى الخوف على الجيش اللبناني من الإصابة بهذه العدوى.
إسرائيل بدل لبنان
ويسهم اللبنانيون في صراعاتهم المصلحية والمذهبية والطائفية في تدمير ما تبقى لديهم. ولن يجدوا من ينقذهم. فدول الخليج التي كانت تسارع للمساعدة لم تعد مهتمة، وغيرت وجهة اهتمامها. وهي التي تعتبر أن كل ما قدمته للبنان ذهب سدى، وحوربت بأموال كانت قد قدمتها كمساعدات.
هذه النظرة السوداوية ستتزايد في المرحلة المقبلة في ضوء تحسن العلاقات الخليجية – الإسرائيلية. وهنا سيكون الانتقام الإسرائيلي من لبنان الذي كان مقراً لخدمات الاستشفاء والسياحة والتعليم ومتنفساً اجتماعياً وثقافياً للعرب. فإسرائيل تعمل اليوم على وراثة دور لبنان عربياً.
وهي تعمل على إطلاق رصاصات الرحمة على ما تبقى من لبنان. وتستعيض في ذلك عن الحروب العسكرية المكلفة، بخوضها حرباً خانقة اقتصادية ومالية وأمنية، توفر عليها تكبد الخسائر.
سواد ما بعد ماكرون
وفي الأسبوع المقبل سيزور الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لبنان في محاولة لإنقاذ ما تبقى من المبادرة الفرنسية. لن يصدمه ما يعرفه: السجالات الهمايونية بين رئيسي الجمهورية والحكومة على كيفية تشكيل الحكومة، والصراع على الحصص والمكتسبات. والصراع السياسي على القضاء، على خلفية انفجار المرفأ والتحقيقات فيه، والأبعاد التي اتخذها ادعاء القاضي صوان والتعاطي معها سياسياً ومذهبياً.
ولعب الرئيس المكلف سعد الحريري ورقة يستعيد من خلالها شعبيته في الشارع السني ويكرس نفسه “أب السنّة” من خلال حمايته حسان دياب. وتلك ورقة ستكون عامل قوة له في مفاوضات تشكيل الحكومة. وفي المقابل يستخدم رئيس الجمهورية ميشال عون السجال مع القضاء لتقوية نفسه مسيحياً، نصرة للمتضررين من انفجار المرفأ.
وبين الحريري وعون يجلس حزب الله مراقباً ومحيداً نفسه عن الصراع الماروني – السني. أما ماكرون فسيعلن إطلاق صندوق لإعادة إعمار بيروت. وهو صندوق سيبقى فارغاً، كما حصل مع مؤتمري الدعم اللذين دعا إليهما من قبل. ما بعد الزيارة، سيستمر الانهيار في إطباقه على لبنان.