
خلدون الشريف – المدن
في منتدى أنطاليا الديبلوماسي، كان جليًا أنّ كلّ الرسائل التي نُقلت تتضمّن سردية واحدة حول إيران: “ترامب جدي جدًا في رغبته التوصل إلى اتفاق نووي مع طهران”، وهو، لأجل ذلك، لن يستمع إلى المتطرفين الجمهوريين في واشنطن ولن يخضع لرغبة إسرائيل وتمنّياتها. وهذا القسم الممتلىء من الكأس. أمّا تكملة السردية فتقول: “وإذا لم يحصل الاتفاق، فضربة إيران الماحقة حاصلة لا محالة، وكفى بغزة ولبنان وما جرى في سوريا شواهد على ما يمكن أن يحصل لطهران، والمهلة الزمنية للتوصل إلى اتفاق لا تتجاوز الشهرين”.
تردّد إيراني
في إيران، كان التردّد -ولا يزال- حاكمًا: فلا ثقة بنيّة الإدارة الأميركية، ولا ضمانة بأنّ الولايات المتحدة ستتمسك باتفاق توقعه في ظروف مختلفة. وتعود الذاكرة الإيرانية إلى نقض ترامب نفسه عام 2018 الاتفاق النووي الذي وقعه سلفه باراك أوباما في العام 2015، وعلى المقلب الآخر، يخفّف الإيرانيون من وقع التهديدات الأميركية بضربة ماحقة، ويعتبرون أنّ إيران دولة كبيرة جدًا وقدراتها تتجاوز بآلاف المرات قدرات أيّ من التنظيمات “اللادولتية”. كما يرَوْن أنّ ضربة إيران لن تكون حدودها الإقليم فحسب، بل قد تتجاوزها لتبلغ أقاليم عدة، في عالم يشعر بالتنمر الأميركي، وتسود فيه رغبة واسعة في كسر شوكة “أميركا ترامب”، خصوصاً بعد تعرفاته الجمركية الظالمة وتخلّيه عن أوروبا، والإفصاح عن رغباته في احتلال غرينلاند وضم كندا وباناما، وإلى آخر المعزوفة. بالشكل، أرادت إيران إظهار ندّيتها عبر صحافتها بالقول إنّ جولة المحادثات الأولى في مسقط عُقدت وفق الشروط الإيرانية، في إشارة إلى الصيغة “غير المباشرة” للمحادثات. وفي 13نيسان الجاري، وفي خطاب ألقاه أمام القادة العسكريين، لم يعلّق المرشد علي خامنئي على محادثات عُمان، بل اكتفى بالقول: “القوى العالمية تعتبر نفسها مخوّلة بامتلاك أكثر الأسلحة تدميرًا، بينما تعتبر التقدّم الدفاعي للآخرين أمرًا غير مسموح به”.
تشكيك إسرائيلي
تشكّك إسرائيل على الدوام بفائدة إبرام أيّ اتفاق مع إيران، ما لم يسبقه هجوم على مواقعها النووية. غير أنّ تل أبيب أدركت بأن إدارة الرئيس دونالد ترامب، وعلى الرغم من الخلافات في داخلها، قد حسمت قرارها لمصلحة الجهود الدبلوماسية للتوصل إلى اتفاق مع طهران. وهذا ما بشّر به ترامب رئيسَ الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في البيت الأبيض، خلال زيارته الأخيرة. إسرائيل تريد تفكيكًا كليًا للمشروع النووي الإيراني. أمّا ترامب فيقول قولًا ثابتًا يكرّره في كل المحطات: “ممنوع على إيران امتلاك سلاح نووي فحسب”. ويعتبر الإسرائيلي أنّ منطق ترامب هذا يتماهى مع المنطق الإيراني الذي يشدّد على أنّ “الخطة النووية مخصصة لأهداف سلمية فقط”، وعلى عدم استعداد طهران التخلي عن برنامجها السلمي تحت أيّ ظرف، وعلى ألّا رغبة ولا نية بامتلاك سلاح نووي. هذان الموقفان يناقضان الرغبة الإسرائيلية بتفكيك الخطة النووية الإيرانية بكاملها، وإبعاد إيران عن العتبة النووية إلى الأبد.
وعلى المقلب العسكري، يتطلّع الإسرائيليون بزهوّ إلى الوجود الأميركي غير المسبوق لأسراب طائرات استراتيجية ذات قدرة على التخفي في جزيرة دييغو غارسيا في المحيط الهندي، ولاكتظاظ المنطقة بحاملات طائرات وسفن متممة ومساعدة لها. وبالتوازي، يرى الإسرائيليون أنّ إيران تعيش أضعف أوقاتها، نتيجة فقدانها قدرات “حزب الله” الردعية من جهة، والضرر الذي أُلحق بقدراتها الدفاعية نتيجة الضربات الإسرائيلية على وسائل دفاعها الجوية من جهة ثانية.
دور أكبر لتركيا
يبدو أنّ ترامب يراهن على دور أكبر “لتركيا أردوغان”، ليس في الشرق الأوسط فحسب، بل في الصراع الروسي-الأوكراني وموازنة العلاقة بين البلديْن، وفي التفاوض مع إيران وبعث الرسائل لها، وفي أذربيجان وأرمينيا. ويبدو أنّ تركيا على استعداد للعب هذا الدور وفق مشاهداتي الشخصية في منتدى أنطاليا الديبلوماسي، الذي أظهر لكلّ مشارك حضور تركيا الجلي في أفريقيا وآسيا الوسطى والقوقاز، وقطعًا في سوريا وليبيا والسودان.. وفلسطين، التي باتت مادة يومية للخطاب التركي والتوتّر الإسرائيلي.
يحاول ترامب طمأنة تركيا من ناحية أكراد سوريا، من خلال قراره خفض حجم القوة الأميركية العاملة في سوريا إلى ألف جندي بدلاً من ألفيْن، من دون أن يصغي إلى نتنياهو الذي حاول إقناعه بعدم اتخاذ مثل هذا القرار. ويعتبر التركي أنّ الضامن والداعم الأساسي للحركات العسكرية والسياسية الكردية المعادية له هي الولايات المتحدة نفسها. غير أنّ الدور الإيجابي للولايات المتحدة في توقيع الاتفاق بين الأكراد السوريين والرئيس السوري أحمد الشرع، يفسح المجال أمام منح تركيا تفويضًا أوسع بإدارة وتنسيق حربها ضد “داعش”، بما يمهّد لأن تصبح أنقرة “الذراع العسكرية” للولايات المتحدة في سوريا. وفي هذا الإطار تحديدًا، يُقرأ الاجتماع التركي-الإسرائيلي في أذربيجان الرامي إلى تنظيم خطوط الطيران العسكري للبلديْن في سماء سوريا، عبر إرساء آلية “تمنع المواجهات” وتخفف الاحتكاكات deconfliction mechanism.
السعودية وإيران: أكثر من تنافس وأقلّ بقليل من عداء
في لقاء جانبي في أنطاليا، سألت محللًا سياسيًا تركيًا بارزًا عن طبيعة العلاقة التركية-الإيرانية، وعمّا إذا ما كانت تركيا والسعودية على الموجة نفسها مع إيران، فأجاب من دون تردّد أو عناء: “تركيا تتنافس مع إيران ولا تعاديها، أمّا السعودية فإلى الآن موقفها أكثر من تنافسي وأقلّ بقليل من عدائي”.
كان ذلك قبل أيّام من الزيارة الملفتة جدًا -شكلًا وتوقيتًا- لوزير الدفاع السعودي، الأمير خالد بن سلمان، لإيران ولقائه المرشد الأعلى علي خامنئي. وهذه هي الزيارة الأرفع منذ لقاء وزير الخارجية السعودي السابق، الأمير سعود الفيصل، للإمام خامنئي نفسه في العام 2006. وإذا كانت العلاقات السعودية-الإيرانية قد شهدت إيجابية خلال عهد الرئيسيْن هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي، إلاّ أنّها اتسمت بتوتّرات طويلة بلغت الذروة في العام 2016 عند إحراق السفارة السعودية في طهران والقنصلية في أصفهان، بعد إعدام رجل الدين السعودي نمر النمر. وكان الاعتداء على شركة “أرامكو” في أيلول العام 2019 ذروة التحوّل السلبي حتى رعاية الصين تفاهمًا بين البلدين في آذار العام 2023.
إذن، قبل أيام فقط من جولة المحادثات النووية التي جرت في روما في مقر السفير العماني، استقبلت إيران وزير الدفاع السعودي. وأتت هذه الزيارة في وقت تكثّف فيه إيران تواصلها مع دول الخليج، في محاولة لتعزيز علاقاتها الإقليمية، وسط توتّر متزايد مع اسرائيل، وتهديدات أميركية متنامية بضرب العمق الإيراني بقوة، ما ينذر بصراع مسلح غير متكافئ لكن مؤذياً جدًا للإقليم. هذا اللقاء النادر يُبرز جهوداً متسارعة من قبل خصمَين إقليميَين قديمَين للعمل على ضمان الاستقرار، في ظل تصاعد المخاوف من صراع أوسع، خصوصاً مع تفاقم التوترات في غزة وسوريا والبحر الأحمر، ومع تزايد الضغط الأميركي على الجماعات الموالية لإيران في الشرق الأوسط بشكل عام واليمن بشكل خاص. كما ويأتي اللقاء قبل شهر من زيارة ترامب للملكة العربية السعودية الشهر المقبل، حين سيتوجه للرياض لبحث حجم الاستثمارات السعودية والخليجية في الولايات المتحدة، وعينه بلا شك على استثمارات مقبلة وكبيرة جدًا في إيران.
ولأنّ شيئًا لم يرشح عن مضمون الرسالة التي حملها بن سلمان لخامنئي، غير أنّ ما قاله الأخير يعبّر عن طبيعة الجهود المبذولة لتطوير العلاقة السعودية-الإيرانية. إذ تحدّث “عن قناعة بأن العلاقة بين جمهورية إيران الإسلامية والمملكة العربية السعودية مفيدة لكلا البلدَين، ويمكن أن يُكمل أحدهما الآخر”. ولفت خامنئي إلى أنّ “تعزيز العلاقات بين البلدَين له أعداء. ويجب التغلّب على هذه الدوافع العدائية، ونحن مستعدون لذلك”.
تفاؤل إيراني حذر
يسود إيران شعور واضح بالتفاؤل الحذر بعد المحادثات النووية “البناءة” مع الولايات المتحدة في عُمان، وقد ارتفعت نسبة التفاؤل بعد جولة روما، وستليها جولة في مسقط وربما جولات أخرى بعدها. لكن في إيران يبدو أنّ دعم الحوار تقاطع مع مختلف الأدوات الإعلامية هناك، حيث أشارت وسائل إعلام محافظة، عادةً ما تكون ناقدة، إلى أنّ طهران أظهرت قوة في مسقط وفرضت شروطها في روما، كما بدأ الريال الإيراني يسجل ارتفاعًا أمام الدولار. وعلى رغم استمرار بعض وسائل الإعلام بتصوير المحادثات على أنّها غير مُجدية، وأنّ الحل للمشاكل الاقتصادية التي تواجهها البلاد يكمن في سياسات أفضل، وليس في رفع العقوبات الأميركية، إلاّ أنّ هذا الكلام لا يضع عصيًا في دواليب التفاوض. وفي الوقت عينه أكد موقع “أكسيوس” الأميركي أنّ المحادثات الأخيرة في روما أحرزت تقدمًا كبيرًا جدًا، بحسب ما نُقل عن شخصية محورية في إدارة ترامب.
واشنطن وطهران: حاجات مشتركة وأيام مفصلية
الاتفاق النووي حاجة مشتركة للطرفَين: فقد أدركت إيران أن الحرب لن تكون لصالحها بعد فقدانها أدوات الردع الاقليمية، وأدركت أنّ التقدم التكنولوجي العسكري الأميركي يضعها في موقع عسكري ضعيف، وهي تعيش ظروفًا اقتصادية صعبة جدًا، والعقوبات تستنزف نقدها واقتصادها. ومن جانبها، تحتاج الولايات المتحدة إلى أمور عدّة من إيران: المواد الأولية، النفط والغاز، والأهم أنّ أميركا ترى في إيران فرصة استثمارية كبيرة لها، تعوّض بعض ما خسرته وستخسره مع الصين. يكفي التذكير هنا أنّ الصين ألغت صفقة طائرات “بوينغ” (أكثر من 250 طائرة) وأنّ الولايات المتحدة ألغت قبلها صفقة طائرات مع إيران. ويكفي التذكير بأن إيران لوّحت بقدرتها على استيعاب استثمارات أميركية بتريولانات الدولارات وليس بمليارات.
الرغبة في التوصل إلى اتفاق مصلحة استراتيجية للطرفَين، لكن الشيطان يكمن دائماً في التفاصيل. الظروف الموضوعية مؤاتية والإقليم برمته لا يرغب في حصول صراع مسلح يبدأ مع إيران وقد لا ينتهي فيها. ولذا، الكلّ يشجع على الوصول إلى اتفاق مرض، باستثناء إسرائيل التي تعدّ العدة للانقضاض على إيران فور تبلّغها من الولايات المتحدة فشل المفاوضات. الجلسة المقبلة على بعد أيام، الساعة تدق والكل يترقّب.