منير الربيع – المدن
حقبة جديدة من النفوذ الأميركي تتقدّم في منطقة الشرق الأوسط والمشرق العربي بالتحديد. إنها العودة الأميركية الرابعة منذ حلف بغداد في الخمسينيات، إلى العودة الأطلسية في الثمانينيات، وما بعد أحداث الحادي عشر من أيلول، وفي هذه المرحلة بالتحديد، بعد “عملية طوفان الأقصى” والحرب الإسرائيلية على المنطقة، التي استدعت التدخل العسكري الأميركي المباشر والعودة إلى الشرق الأوسط، بعد سنوات من الانكفاء والتراجع لصالح “المواجهة” مع الصين. تراجعت أميركا طيلة السنوات الفائتة في المنطقة مع الاحتفاظ بنفوذ أساسي وقوي عبر تحالفات مع دول وأنظمة، ومن خلال تأثيراتها المالية والاقتصادية، وربما يشكل لبنان أبرز مظهر للنفوذ الأميركي من خلال العلاقة مع الجيش اللبناني والمصرف المركزي، وفي سوريا أيضاً. فعلى الرغم من تراجع أوباما عن لعب أي تأثير في تغيير النظام، أو توجيه ضربات له لصالح بناء التفاهم مع إيران، إلا أن أميركا احتفظت بقواتها العسكرية على الحدود السورية العراقية.
قطع طريق إيران
تعود الولايات المتحدة الأميركية من بوابتين. الأولى، اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان. والثانية، التطورات التي تشهدها الساحة السورية، وتريد أميركا استثمارها للضغط على دمشق لقطع طرق الإمداد عن حلفاء إيران وإضعاف النفوذ الإيراني. وهو ما تريد واشنطن تكريسه من خلال فرض الشروط السياسية والأمنية والعسكرية على البلدين. وذلك ما يتجلى في لبنان من خلال رئاسة جنرال أميركي للجنة مراقبة آلية تطبيق القرار 1701 وحصر السلاح بيد الدولة، وما سيكون له من توابع سياسية. لا سيما أنه في البيان الأميركي الذي يتحدث عن اللجنة، يشير إلى رئاسة الجنرال العسكري لها، مقابل رئاسة المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين مدنياً له. وهذا ما سيكون له تبعات بالمعنى السياسي، خصوصاً أن هوكشتاين وخلال زيارته الأخيرة إلى بيروت أبدى استعداده للعمل على إنجاز تسوية سياسية، تبدأ من انتخاب رئيس للجمهورية وإعادة تشكيل السلطة وتثبيت الحدود البرية.
تجربة الثمانينات
منذ حرب فييتنام، اقتنع الأميركيون أنه لا يمكنهم التورط بحروب أهلية، وهو ما تكرر معهم في لبنان في الثمانينيات. إذ قوبلت قواتهم بالكثير من العمليات العسكرية، دفعتهم إلى الانسحاب من لبنان في العام 1983. ولكن في تلك الفترة كان هناك معادلة مختلفة، فكان الاتحاد السوفييتي لا يزال قوياً ويتمتع بنفوذ ودور كبيرين، وحينها كانت سوريا قد عززت تحالفها مع السوفييت، وكانت إيران قد بدأت بإطلاق مشروعها في المنطقة، فتكثفت العمليات ضد القوات العسكرية الأميركية، لا سيما أن حلفاء لسوريا وإيران شنوا الكثير من العمليات ضد القوات الأطلسية، ودخلوا في مرحلة إنقلابية على ما تكرس في اجتياح بيروت عام 1982، وما تلاه سياسياً وصولاً إلى اتفاق 17 أيار 1983. وبعد إسقاط اتفاق 17 أيار، حصل انقلاب كبير في الموازين اللبنانية وتجددت الحرب الأهلية، وتعرض الأميركيون لضربات دفعتهم إلى الانسحاب.
بعد 11 أيلول
عاد الأميركيون إلى المنطقة في لحظة أحداث 11 أيلول، من خلال حربي أفغانستان والعراق، وأطلقت واشنطن على هذه العودة عنوان “إعادة بناء الأمم”، والتي فشلت وتحولت إلى حروب أهلية. وكذلك بالنسبة إلى ثورات الربيع العربي التي أيضاً تحولت إلى حروب أهلية، وتحديداً في سوريا، في سيناريو مشابه تماماً للسيناريو العراقي، بفعل حجم وقوة التدخل الإيراني. فمنذ حرب العراق، ومرحلة ما بعد اغتيال رفيق الحريري في لبنان، وما بعد حرب تموز، تعزز النفوذ الإيراني في لبنان، حتى أصبحت الصورة منقسمة ما بين محورين، أميركي وإيراني. وهو ما تكرر في سوريا إبان اندلاع الثورة. حتى هذه الأيام بقيت معادلات المنطقة محكومة بتنافس أو تقاطع إيراني- أميركي، إلى أن شنّت إسرائيل حربها على المنطقة واستدرجت الولايات المتحدة الأميركية إلى ما تريده، وأعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو العنوان الأوضح للمعركة، وهو ضرب نفوذ إيران.
انخرطت أميركا في الحرب الإسرائيلية بقوة، من خلال الدعم العسكري والعملياتي واللوجستي والاستخباري. واليوم، تعود أميركا إلى المنطقة وهي صاحبة اليد العليا، بعد توجيه ضربات قوية لإيران وحلفائها بالعصا الإسرائيلية الغليظة، فيما يبدو المشروع وكأنه إعادة تثبيت النفوذ وتكريسه على شكل وصاية، من دون الانتشار العسكري الكبير والموسع. ففي سوريا تتمتع واشنطن بقدرة على التأثير من خلال تركيا، أو الأكراد أو إسرائيل، أو من خلال وجود عشرات العسكريين الأميركيين فقط. وهذا ما يمكن أن يتكرر في لبنان، من خلال الجنرال الأميركي الذي سيرافقه عدد من الجنود. وهو الذي سيكون حكماً ومستحكماً.
العودة إلى لبنان
تعود أميركا بفعالية، وسط رهانات لبنانية كثيرة على المتغيرات التي ستفرضها هذه العودة. علماً أن الأميركيين كانوا قد خذلوا حلفاءهم في لبنان أكثر من مرة، وتحديداً بعد حرب تموز 2006 ونظرية الشرق الأوسط الجديد، لصالح تفاهمات جانبية مع إيران، سمحت بعدم تطبيق القرار 1701 أو غيره من القرارات الدولية. كما خذلتهم في أحداث 7 أيار 2008 ولحظة استخدام حزب الله لسلاحه في الداخل، حين كان بعض حلفاء واشنطن يراهنون على التدخل العسكري الأميركي ضد الحزب، وأن هناك بوارج أميركية على السواحل اللبنانية، ليتبين أن الرهان كان خاسراً، وحقق حزب الله النتائج التي يريدها سياسياً، من خلال تكريس دوره ونفوذه، وأنتج أيضاً تفاهمات إيرانية أميركية، عادت وتجلت في مفاوضات النووي وفي الميدان السوري، الذي كان السبيل الأبرز لولادة الاتفاق بين إيران وأميركا.
حالياً تغيرت الوقائع، وتأتي العودة الأميركية بعد إضعاف كل الحلفاء والخصوم، لتبدو أميركا وكأنها صاحبة القرار الأعلى في المنطقة. وهو ما تستكمله من خلال ضغوطها السياسية في لبنان، والتعويل والاستثمار في كل الوقائع العسكرية والسياسية التي تتغير في سوريا، ليس بهدف إسقاط النظام، بل بهدف تقويض إيران وتطويع النظام وإلزامه على قطع طرق الإمداد. لا سيما أن ما يجري في سوريا جاء بعد ضغوط دولية واضحة وعلنية حول منع تهريب الأسلحة إلى حزب الله عبر الأراضي السورية. وذلك يأتي بعد اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان، والذي ينص على سحب سلاح حزب الله من جنوب نهر الليطاني، ووقف إمداد الأسلحة إلا للدولة اللبنانية. ويترافق هذا مع ضغوط دولية كبيرة على إيران وحزب الله للتحول إلى التركيز على الدور السياسي، بدلاً من الدور العسكري، وحتى هوكشتاين قال في أحد تصريحاته الإعلامية إنه يمكن لحزب الله الاستمرار بالعمل السياسي والشعبي.
براغماتية حزب الله
ولا بد من الالتفات إلى أنه على الرغم من الخروقات الإسرائيلية اليومية للاتفاق، إلا أن حزب الله يلتزم به، وهو على تنسيق مع الدولة اللبنانية لمعالجة هذه الخروقات ووقفها، وانتظار تفعيل آلية عمل لجنة المراقبة الدولية التي يرأسها جنرال أميركي. فهو الذي سيتولى الضغط على الإسرائيليين لإلزامهم بوقف الخروقات. ما يعني تسليم الحزب بدور اللجنة برئاسة أميركا. وذلك سيكون محطة أولى في سياق محطات أخرى، أبرزها سياسياً من خلال انتخاب رئيس للجمهورية، وسط معلومات تفيد بأن الحزب يبدي كل الاستعداد لانجاز الاستحقاق الرئاسي بالتوافق. وفي هذا المجال، تنظر جهات دولية وإقليمية إلى مواقف الحزب الأخيرة التي جاءت على لسان الأمين العام الشيخ نعيم قاسم بأنها براغماتية، خصوصاً عندما التزم باتفاق الطائف، وبحفظ دور حزب الله سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، ولم يأت على ذكر الدور العسكري. بالإضافة إلى كلامه عن المشاركة في انتخاب رئيس للجمهورية، ومنع استضعاف الدولة من خلال التعاون بين المقاومة والجيش. وما يعنيه ذلك من فتح للطريق أمام “الاستراتيجية الدفاعية” في المرحلة المقبلة.
ما تريد أميركا تكريسه هو عدم تكريس توازنها في المنطقة مع إيران حصراً، بل أن تكون إيران حاضرة إلى جانب القوى الإقليمية الأخرى، بينما أميركا تكون صاحبة اليد الأعلى.