كتبت ليلى دندشي
قصص الإغتراب اللبناني في العالم لا تنتهي، وإذا كان لبنان منذ 1975 “نزف” مهاجرين، فإن للهجرة اللبنانية والطرابلسية بخاصةٍ دوراتها وحقباتها منذ أواسط القرن التاسع عشر، وللمهجر أو المغترَب الأفريقي حصته من لبنان، وغانا واحدة من البلدان التي وصل إليها اللبنانيون عام 1885.
وحكايتنا هنا تبدأ مع مغترب طرابلسي في غانا منذ العام 1938 ، وتحديدا بعيد الحرب العالمية الأولى حيث شكّل الإغتراب اللبناني إلى البلدان الأفريقية، خصوصا إلى غانا، موردا ماليا لأبناء طرابلس، كما شكل هذا الإغتراب عاملا سياسيا في إزدهار عاصمة الشمال عمرانيا وماديا حتى قيل أنه لم تبق عائلة طرابلسية ليست ذات صلة بأحد أبنائها المغتربين إلى ذلك البلد الأفريقي الواقع في غرب القارة على ساحل الأطلسي.
وإن كان الإغتراب الطرابلسي إلى غانا أصيب بإنتكاسة خلال الحرب العالمية الثانية، خصوصا وأن غانا كانت مستعمرة بريطانية فإن مطلع الخمسينات من القرن المنصرم يعد “البيضة الذهبية” إذ تدفقت أموال الطرابلسيين إلى مدينتهم الأم لتُستثمر في مجالات التجارة وشراء العقارات وتشييد الأبنية ما شكّل سببا رئيسا في إتساع المدينة عمرانيا وشق الطرق فيها على حساب المناطق الزراعية خصوصا بساتين الحمضيات وواحات النخيل والأشجار المثمرة.
الهجرة الثانية
ونجاح الجالية الطرابلسية في غانا خصوصا المغتربين الأوائل دفع بالكثير من شبان المدينة إلى التفكير بالهجرة، وسيطر هذا الهاجس على عقولهم حتى اثناء فترة الحكم الإنتقالي في غانا بين عامي 1950-1960 تحت امرة الرئيس الغاني نكروما والتي إنتهت بإعلان إستقلال غانا نظرا للعلاقات التي نسجها نكروما مع زعماء حركات التحرر في العالم.
ولكن دوام الحال من المحال، ففي مطلع الستينات لبى الكثير من الوزراء والمسؤولين الغانيين دعوة أفراد الجالية اللبنانية لزيارة طرابلس والإقامة فيها اياما وأسابيع عِدّة، إطلعوا فيها على النهضة العمرانية في المدينة وعلى المنشآت المختلفة التي أقامها المغتربون الطرابلسيون، وبالتحديد العمارات الشاهقة، كل ذلك بالأموال التي كان يقوم المغتربون بتحويلها من غانا إلى عائلاتهم في طرابلس والتي تجاوز عددها آنذاك الألوف.
هذه المشاهد أثارت المسؤولين الغانيين خصوصا وأن بلدهم كان قد تحرر حديثا ويحتاج إلى إمكانات مالية ومادية كبرى للنهوض، فغانا بدأت بعد أعوام قليلة من الإستقلال تعاني من ضائقة مالية ومن الديون التي أخذت تتراكم عليها وتشكل عجزا في ميزانيتها العمومية، وهذا ما دفع الحكومة الغانية إلى إتخاذ تدابير وقوانين تحد من حرية عمل اللبنانيين وتضيّق عليهم في مجال تحويل اموالهم إلى الخارج، على الرغم أنّ هؤلاء ومنذ وطأت أقدامهم الساحل الغاني ساهموا في نهضة هذا البلد وتعليم أبنائه وإقامة المشاريع الصناعية والزراعية فيه.
حكاية مغترب لبناني
حكاية الإغتراب الطرابلسي هذه وما تكبده المهاجرون والمغتربون الأوائل وما صادفتهم من إشكالات ومصائب وطرائف يرويها رهيف زريق الذي اسس أول رابطة إغترابية – رابطة مغتربي غانا 1960 –وأحد مؤسسي “الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم 1962، وذلك من خلال كُتيّب صدر له العام 1988 بعنوان “حكاية إغترابي”.
والكُتيّب هو مجموعة قصص وأحداث عاصرها المؤلف منذ أن إنسلخ عن طرابلس في العام 1937 وهاجر إلى غانا، قبل أن يتجاوز السابعة عشرة من عمره، عِلما أن أول مهاجر لبناني حطّ رحاله في غانا هو إلياس الخوري من بلدة مزيارة في شمال لبنان-قضاء زغرتا وكان ذلك في العام 1885.
يشير زريق إلى أن غانا كانت الوطن الثاني لألوف من الشبان الطرابلسيين واللبنانيين الذين هاجروا إلى ذلك البلد الأفريقي وكانت لهم مساهمة فعالة في تطوير قطاعات الصناعة والزراعة والخدمات العامة وشيّد ببعضهم المستوصفات والمؤسسات الإجتماعية والمدارس التي تبرعوا بها إلى السلطات المحلية.
وبرز الكثير من اللبنانيين في غانا في مختلف القطاعات العامة والخاصة وإحتل اللبناني مكانة مرموقة بين أبناء الجاليات الأخرى لإمتلاكه المصانع والمؤسسات التجارية الهامة في كل من العاصمة أكرا و كوماسي ثاني المدن الغانية التي نشطت فيها تجارة الأخشاب التي تعتبر من أهم الموارد التي إعتمد عليها بعض اللبنانيين وتأتي في الدرجة الثانية بعد الكاكاو.
أنشأ اللبنانيون زراعة “زيت البالم” وإعتبرت هذه الزراعة حينذاك من إحدى الزراعات في “كابكوست” (الإسم الاصلي لغانا) إلى جانب صناعة الصابون.
وأقام اللبنانيون مصانع للنسيج وأخرى لصناعة الأحذية ولإعادة تركيب السيارات الأجنبية وإستراد قطع الغيار.
ومن أبرز اللبنانين الأوائل الوافدين إلى غانا: وليم شبيب (ديك المحدي)، سمعان داود (حدث الجبة)، جورج التركي (بيت شباب)، نور الدين الزهري ومصباح القبطان ورباح عدرة (طرابلس)، وغيرهم كثيرون من أبناء طرابلس مثل ظافر بازارباشي، بشير القدسي، حسن القدسي، محمد غلاييني، محمد القصاب، والبعض من هؤلاء اقام طوال حياته في غانا والبعض الآخر كان في ترحال دائم بين لبنان وأفريقيا وعدد آخر أقام اياما ثم عاد إلى وطنه لعدم تحمله مشقة السفر والإقامة بعيدا عن الأهل، فيما تزوج عدد من اللبنانيين من فتيات غانا وأنجبوا أبناء وحصل غالبيتهم على الجنسية البريطانية خلال فترة الإستعمار، فبلغ عدد أفراد الجالية اللبنانية في غانا منتصف القرن المنصرم زهاء 450 ألف نسمة.
إستدان ليسافر ويحقق حلمه
ولنعد إلى صاحبنا رهيف الذي لقبه معاصروه ب”السندباد” متحدثا عن رحلة إغترابه ومصاعبها كأي لبناني إستهواه حب السفر والهجرة في مقتبل عمره لدى إحساسه بضائقة مالية أو صعوبة مادية فيقرر السفر رغم صعوبة إتخاذ هذا القرار فصمم على الذهاب إلى غانا حيث كان يعمل أحد اقربائه (إبن عم والدته).
يقول “لم أكن أملك مايكفي لشراء بطاقة السفر وقيمة الكفالة المالية البالغة 60 ليرة إنكليزية، فإستدنت المبلغ بواسطة والدي وبكفالة خالي لدى أحد الاشخاص شرط أن أعيد المبلغ فور وصولي إلى أفريقيا .. وفي اليوم المحدد كنت أرتدي طقما أسود هو طقم التخرج من المدرسة”.
وعن آخر الساعات التي قضاها في طرابلس قبل السفر يقول “أخرجت كرسيا وجلست أمام المنزل (في شارع الميناء) وكان في نيتي أن أودع راجي، سائق الترامواي الذي كان يمر أمام منزلنا، كنت معتادا في كل يوم أن أجلس هكذا وأتمتع بمنظر الترامواي المتجه نحو الميناء وألوح بيدي لسائقه راجي، فيرد علي بالتحية، علما أن ترامواي طرابلس، كانت تجره البغال ولا يعمل بواسطة الكهرباء كما كان حال الترامواي في بيروت”.
ويسافر رهيف في اليوم الثاني من مرفأ بيروت على متن الباخرة “أون داك” التي لم يحجز له والده كبينا فيها لأن المشوار كما قال له: قصير … 7 أيام فقط إلى مرسيليا “ستمضيها كشمة هواء” وعلى ظهر السفينة يعطونك كراسي للنوم وهنا تذكر رهيف مخدة أمه.
على ظهر السفينة إلتقى رهيف بأحد المغتربين الطرابلسيين في غانا وهو بشير القدسي وكان عائدا إلى أفريقيا، فنصحه بأن لا يتعود على شرب البيرة قائلا له “أنا مدمن عليها وما صرفته على شربها يساوي ثروة، تصور ان قناني البيرة التي شربتها في السنين التسع الماضية لبلغت بحجمها حجم هرم الجيزة في مصر!!”
لبناني في غانا
صبيحة 9 تشرين الثاني من سنة 1937 حطّ المغترب الطرابلسي رهيف زريق رحاله في غانا مع وصول الباخرة إلى أكرا ومنها في زورق صغير إلى الشاطىء حيث إنتظر مع زهاء 350 شخصا لبنانيا كانوا على منتن الباخرة وكل واحد منهم يحمل أغراضا مختلفة من كراسٍ للنوم ومخدات وفرش وحتى “قطرميز” زيتون أو مربى.
لتبدأ مسيرة إقامته في العاصمة أكرا بحثا عن عمل مستقل فيتعرف على أحد أصدقاء والده ويدعى رباح عدرة الذي أوجد له عملا في مؤسسة لبيع قطع غيار السيارات يملكها هاشم كرّوم .
ومن الطرائف التي يشير إليها زريق أن أهل البلد الأصليين كانوا يشترون الحذاء ب”الفردة” وإذا أراد الغاني أن يحصل على فردتين عليه أن يدفع السعر مضاعفا.
وإستطاع أن يعلم وفي وقت قصير أن الألمان كانوا يعلّمون الأهالي الأصيلين حِرفا متعددة خلافا للبريطانيين الذين لم يعلّموا أهالي مستعمراتهم سوى شرب الويسكي، فعلى لسان الغانيين يتردد هذا القول: “البريطاني علمنا شرب الويسكي من دون أن يعلمنا كيف ندّخر لنتشتري الويسكي”!!