شعار ناشطون

أرباب العمل “يرمّمون” ثرواتهم.. على حساب الموظّف؟

28/06/24 06:23 am

<span dir="ltr">28/06/24 06:23 am</span>

عماد الشدياق – اساس ميديا

كلّ شيء بعد الأزمة تحوّل وتبدّل وارتفعت أسعاره، ما خلا رواتب موظّفي القطاع الخاصّ. أرباب العمل في القطاعات كلّها رفعوا أسعار سلعهم وخدماتهم حتى تحاكي متطلّبات الواقع وتعود في قيمتها إلى حقبة “ما قبل الأزمة”، لكنّ رواتب الموظّفين بقيت كما هي. لا بل تواصل تقهقرها إلى اليوم بفعل التضخّم.

ثمّة نظرية يتناقلها عدد من الخبراء الاقتصاديين هنا وهناك، وتفيد بأنّ القطاع الخاصّ عاد ليتأقلم مع واقع الأزمة، واستطاع أن ينطلق من جديد، ويستدلّون من أجل تأكيد صحّة هذه النظرية على حجم الاستيراد الذي كان قبل الأزمة قرابة 20 مليار دولار، وعاد ليرتفع تدريجياً منذ عام 2020 إلى اليوم، وصولاً إلى 17.5 مليار دولار في العام الفائت 2023.

يفوت هؤلاء الخبراء أنّ لبنان “دولة واحدة تستورد لبلدين”: أي تستورد من أجل الاستهلاك اللبناني الداخلي، وكذلك تستورد من أجل الداخل السوري (بمعزل عن طريقة توصيل البضائع إلى الداخل السوري، وإن كانت نظامية أو بواسطة تهريب). وهذا يعني أنّ رقم الـ17.5 مليار دولار لا يعطي صورة حقيقية لوضع الاقتصاد في البلاد، خصوصاً إذا ما ربطنا حجم الاستهلاك هذا بتقلّص رواتب الموظفين وتقهقرها، مع العلم أنّ هذا المؤشّر كان في سنوات ما قبل الأزمة يقع تحت تأثير ما يُعرف في علم الاقتصاد بـ”المرض الهولندي” أو Dutch Disease*، الذي يفيد بأنّ حجم الاستيراد المرتفع سببه القدرة الشرائية المرتفعة للرواتب، وذلك نتيجة سياسة تثبيت سعر الصرف المشوّه الذي لم يعكس على مدى السنوات الـ23 (1996-2019) قيمة الليرة اللبنانية الحقيقية.

خسارة مثلّثة الأضلع

كلّ ما سبق ذكره يعني أنّ رواتب الموظّفين في القطاعين العامّ والخاصّ خسرت من قيمتها الحقيقية في ثلاث محطّات:

– المحطّة الأولى: يوم توقّف تثبيت سعر الصرف، فعادت إلى حقيقتها.

– المحطّة الثانية: يوم بدأ مسلسل انهيار الليرة، فبدأت تتآكل تباعاً مع كلّ قفزة بسعر الصرف.

– المحطّة الثالثة: يوم “تدولرت” الأسعار والرواتب وأصيبت بالتضخّم العالمي.

تشير التقديرات (بحسب دراسة علمية جدّية لم تُنشر بعد) إلى أنّ حجم التضخّم أكل من الرواتب “المُدَولرة” قرابة 15%

“أساس” اطّلع من موظّفين في قطاعات مختلفة على تفاصيل رواتبهم، فتأكّد بالدليل والأرقام أنّ تلك الرواتب قد تدنّت عمّا كانت عليه قبل الأزمة بين 50% و75% على الرغم من الزيادات التي طرأت عليها في السنوات الماضية، وهذا من دون الحديث طبعاً عن حجم التضخّم وتأثيره على القدرة الشرائية الفعليّة لتلك الرواتب، إذ تشير التقديرات (بحسب دراسة علمية جدّية لم تُنشر بعد) إلى أنّ حجم التضخّم أكل من الرواتب “المُدَولرة” قرابة 15%، أي أنّ راتب الموظف الذي تبلغ قيمته 500 دولار أميركي اليوم قيمته الفعلية بخلاف ذلك نتيجة التضخّم، وتقدّر بـ425 دولاراً لا 500 دولار.

قطاعات متنوّعة… والمُصاب واحد

– نأخذ مثلاً موظّفي سوبرماركت Spiney’s المسؤولين عن توضيب وترتيب البضائع في المخازن على الرفوف. كان راتب الواحد منهم قبل الأزمة نحو 700 دولار (أكثر من الحدّ الأدنى للأجور بقليل). لكنّهم اليوم يحصلون على راتب قدره 350 دولاراً فقط، أي نصف الراتب القديم، مع العلم أنّ “سبينس” لم تتوانَ يوماً عن رفع أسعار السلع بحسب سعر صرف الدولار خلال الأزمة، وكذلك رفعها حتى بعد دولرتها.

– قبل الأزمة، كان أحد محلّات تزيين الشعر للرجال، من بين الصالونات المشهورة في بيروت، يدفع للموظّف الرئيسي لديه راتباً قدره 2,000 دولار أميركي، بينما اليوم يدفع له فقط 600 دولار، وهو ما يعني أنّ راتب المعلّم انخفض خلال 5 سنوات بمقدار 75%.

رواتب الموظّفين بقيت كما هي. لا بل تواصل تقهقرها إلى اليوم بفعل التضخّم

أمّا دخل الصالون قبل الأزمة فكان يُقدّر بنحو 15 ألف دولار شهرياً، بينما أضحى اليوم بين 10 و12 ألف دولار شهرياً. وهذا بدوره يعني أنّ دخل المحلّ انخفض عمّا كان عليه قبل الأزمة قرابة 26% فقط بخلاف الرواتب التي انخفضت 75%. لكنّ المفاجأة في تسعيرة الحلاقة، التي كانت قبل الأزمة 20 ألف ليرة لبنانية أو ما يعادل 13 دولاراً، وأصبحت اليوم 20 دولاراً. وهو ما يعني أنّها ارتفعت 35%، لكنّ الدخل العامّ تراجع نتيجة انخفاض عدد الزبائن بحسبما تؤكّد إدارة المحلّ… وهو ما يعني أنّ ربّ العمل يسعى إلى تعويض الخسارة من الزبائن (خسارة هامش الربح، أو ربّما خسارة وديعة بمصرف)، لكنّه في المقابل لا يدفع للموظّفين حقّهم.

– يقول سائق في شركة مشهورة لتوزيع المياه إنّ راتبه قبل الأزمة كان قرابة 1,000 دولار شهرياً مقسّمة إلى قسمين: 500 دولار “معاشاً ثابتاً” تضاف إليها عمولة على المبيع كانت تصل أحياناً إلى 500 دولار وما فوق. أمّا اليوم فإنّ الراتب تقلّص إلى 250 دولاراً، بينما بقيت نسبة العمولة ثابتة على حالها، وأمست تعتمد على قدرة السائق على بيع أكبر قدر ممكن من البضائع على الرغم من تراجع المبيعات، وذلك من أجل بلوغ النسبة نفسها. وهو ما يعني أنّ الموظّف بات مطالَباً ببذل المزيد من الجهد من أجل الحفاظ على ثبات راتبه، وإلّا فإنّ راتبه سينخفض بمقدار 250 دولاراً.

“أساس” اطّلع من موظّفين في قطاعات مختلفة على تفاصيل رواتبهم، فتأكّد بالدليل والأرقام أنّ تلك الرواتب قد تدنّت عمّا كانت عليه قبل الأزمة

– مثال عشوائي آخر من قطاع التعليم يفيد بأنّ مدرسة روضة الفيحاء في طرابلس (المدعومة من رجالات السياسة السُنّة في طرابلس) لا تعتمد على مؤشّر واحد لاحتساب رواتب معلّميها. فخلال العام الدراسي تعطي المدرسة معلّمي الروضة قيمة راتب ما قبل الأزمة بالليرة اللبنانية، وزيادة على قيمته 40% بالدولار الأميركي، مضافاً إليها أيضاً بدل مواصلات، فيصل الراتب إلى حدود 1,000 دولار خلال أشهر العام الدراسي. بينما تقتصر تلك الرواتب خلال فصل الصيف على قيمتها القديمة فقط. أمّا قبل الأزمة فإنّ الراتب نفسه كان قرابة 3,000 دولار، أي انخفض بما قيمته 66%، على الرغم من مضاعفة المدارس الخاصة للأقساط في العام الدراسي المقبل.

رواتب

– يعطي مدير شركة موادّ غذائية وسكاكر مثالاً لـ”أساس” عن رواتب موظّفيه، فيقول إنّ راتب العامل الفنّي لدينا كان راتبه قبل الأزمة قرابة 1,200 دولار أميركي، لكنّه انحدر بفعل الأزمة إلى 500. ويضيف أنّ الشركة اضطرّت إلى خفض رواتب موظّفيها نتيجة انخفاض حجم الأعمال، من دون أن يفصح عن القيمة أو النسبة التي انخفض بها، لكنّه يربط ذلك بتراجع القدرة الشرائية لرواتب الناس… وهنا ربّما “مربط الفرس”.

فرصة لترميم الثروة؟

أرباب العمل يربحون لكن ليس بالقدر نفسه الذي كان سائداً قبل الأزمة، في حين أنّ بعض المصالح الأخرى استطاعت أن تضاعف أحجام أعمالها نتيجة الأزمة نفسها وتضاعف أرباحها.

كلّ شيء بعد الأزمة تحوّل وتبدّل وارتفعت أسعاره ما خلا رواتب موظّفي القطاع الخاصّ أرباب العمل في القطاعات كلّها رفعوا أسعار سلعهم وخدماتهم

إلاّ أنّ هذا كلّه لم ينعكس 100% على قيمة الرواتب، وذلك على ما تُظهر الاستطلاعات أعلاه. ربّما ظنّ بعض أرباب العمل أنّ تداعيات الأزمة في ظلّ الفوضى السائدة هي فرصة من أجل ترميم الثروة التي أُكلت بفعل الأزمة، أو تلك التي احتجزتها المصارف وهضمت قيمتها، متناسين في الوقت نفسه حقيقة تفيد بأنّ الأزمة مترابطة، وتدنّي قيمة رواتب موظّفيه سوف تقوم بخنق الموظّفين ودفعهم إلى الإقلال من الاستهلاك.

وهذا بدوره سيؤدّي إلى تراجع حجم الأعمال: فالحلّاقون سيقصدهم زبائن أقلّ، وشركات الموادّ الغذائية والسوبرماركت ستبيع كذلك سلعاً أقلّ، كما سيتراجع عدد التلاميذ في المدارس الخاصة، والمحامون والمهندسون وأصحاب المهن الحرّة سوف يقصدهم زبائن أقلّ… وهكذا دواليك، فتتراجع بفعل ذلك نسب النموّ الاقتصادي.

* تعبير “المرض الهولندي” هو مصطلح دخل القاموس الاقتصادي قبل نحو 47 سنة، وأوّل من نشره مجلّة “ذا إيكونومست” في أحد أعدادها الصادرة عام 1977، يوم تطرّقت إلى موضوع تراجع قطاع التصنيع في هولندا، بعد اكتشاف حقل كبير للغاز الطبيعي في عام 1959 أدّى إلى وفرة اقتصادية في البلاد تسبّبت بكسل وتراخٍ لدى الشعب الهولندي.

تابعنا عبر