
بسم الله الرحمن الرحيم
( الدكتور عبد الإله ميقاتي – رحمه الله – نموذجاً )
إعداد د. عبدالرزاق القرحاني
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، حبيب القلوب الصادق الأمين ، محمد – وعلى آله وأصحابة الغر الميامين.
إن من الصعوبة في مكان، أن يعبرَ القلم واللسانُ عن ما في القلب والوجدان. وخاصة إذا أراد أن يكتب أو يتحدثَ عن من كان للتنمية والعزم والعلم والفضيلة عنوان… وإذا كنا سنتحدث من خلال هذه الورقة عن نموذج معاصر للمؤسسات الوقفية التي تساهم في تنمية المجتمع، لا بد لنا أن نتذكر ونتأمل إنجازات أصاحب البصمات البيضاء في هذا الزمان، وهذا ليس ببدعة ولا إطراء، لأن التنمية تقوم بالدرجة الأولى على العنصر البشري، (مرتكزاً و وسيلةً وهدفاً) بقلب عامر بالإيمان. بأن التنمية المجتمعية تتألق من خلال تحقيق المقاصد الشريعة: حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال.. هذه المقاصد التي تحمل في مضمونها مقصد عام ويتجلى في تحقيق مصالح الخلق جميعا في الدنيا والآخرة. ومقصد خاص يتمحور حول الضروريات والحاجيات والتحسينات التي تحقق مصالح الناس. من خلال تنمية العديـد مـن المجــالات الحيـاتـيـة: الدينية، و الاجتماعية، والثقافية، والتعليمية، والصحية، والاقتصادية…..
هذه النظرة الشمولية ، كان الدكتور عبدالإله ميقاتي رحمه الله من روادها ومن دعاتها والعاملين على تحقيقها، من خلال إيمان عميق وعمل متواصل في إصلاح وتجديد وإنشاء مؤسسات وقفية معاصرة ونشطة تتمتع بفكر إداري واقتصادي وتكافلي وعلمي. وفهم عميق لدور وأثر الوقف في التنمية الشاملة. وتحقيق النهضة الحضارية.
الدكتور عمر عبد الإله ميقاتي، هو حفيد سلالة من العلماء وابن طرابلس الفيحاء، من مواليد العام 1950م. تلقى علومه الابتدائية والثانوية في المدرسة الرسمية حيث أنهى تعليمه المدرسي بنيل شهادة البكالوريا – القسم الثاني. ثم تقدم إلى مباراة أقامتها وزارة التربية الوطنية – دائرة المنح الجامعية، للحصول على منحة دراسة جامعية في الإتحاد السوفياتي (سابقاً). وكان ترتيبه الأول بين زملائه. فسافر إلى موسكو في العام 1969، وإلتحق بمعهد الطاقة في موسكو، حيث حصل على البكالوريوس والماجستير في هندسة التحكم الصناعي، ثم تابع دراسة الدكتوراه فحصل على شهادة الدكتوراه في العلوم التقنية في ذات المعهد، وأنهاها في نهاية العام 1978.
سافر إلى بريطانيا بعد نيله شهادة الدكتوراه ليتعلّم اللغة الإنكليزية، ثم إنتقل إلى أبو ظبي في آذار عام 1979، حيث عمل في شركة الإنشاءات العربية كمدير لقسم الآليات، وذلك لمدة 5 سنوات.
ورغم الأحداث الأليمة التي كانت تعصف بالبلاد عامة وفي طرابلس خاصة، عاد إلى لبنان في أيلول من عام 1984. واضعاً نصب عينيه حديث االنبي صلى الله عليه وسلم. “إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل”
حيث إلتحق بكلية الهندسة في الجامعة اللبنانية – الفرع الأول في طرابلس، في بدايات عمل الفرع ومارس مهنة التعليم الجامعي، في مواد: الماكينات الكهربائية – التحكم الصناعي – الكهرباء الصناعية. كانت جولات الإقتتال والحرب اللبنانية مستمرة في ذلك الحين، وكانت الجامعة في منطقة تماس بين المتقاتلين . فكانت الدراسة فيها متقطعة مما كان يستوجب التعليم في فترات الهدوء النسبي، ولو كان ذلك في فترات التعطيل الإعتيادي في الصيف أو غيره. ولم تكن الكلية في تلك الفترة مجهزة بالمختبرات العلمية اللازمة. فكانت تتم الإستعانة بمختبرات المعاهد الفنية، حيث يذهب الطلاب إليها. ولم تكن برامج التعليم قد إكتملت في ذلك الحين، فأخذ على عاتقه التنسيق بين الأساتذة في الكلية لوضع البرامج المترابطة والضرورية لإعداد المهندسين، وبفضل هذا التنسيق المتواصل كان خريجو الكلية من أفضل الخريجين في لبنان، وقد إستطاع عدد كبيرمنهم الدخول إلى الجامعات الفرنسية لمتابعة دراساتهم العليا، وكانوا من المتفوقين.
منذ عودته إلى لبنان، شارك الدكتور عبد الإله ميقاتي – رحمه الله – في الأعمال الإجتماعية في المدينة، إيمانا منه أن المجتمعات تنموا بالتعاون بين أبنائها ومكوناتها. فكانت باكورة عمله، المشاركة في أعمال بيت الزكاة والتكافل الخيري، فرأس مجلس رعاية الطفولة والأيتام، وكان عضواً في الهيئة العليا لبيت الزكاة.
لم تمنعه مسؤولياته المباشرة في بيت الزكاة. أن يكون عضواً فاعلا ومتعاونا ومبادراً في العديد من أعمال ونشاطات جمعية مكارم الأخلاق الاسلامية . ومجلس أمناء ثانوية رضة الفيحاء.
ولأن التنمية الاجتماعية بحاجة لعجلة اقتصادية، شارك في إدارة وتأسيس عدة شركات تجارية وعدة مصانع في لبنان والخارج، منها مصانع لإنتاج محارم الورق، والبسكويت، والشوكولا، والمعكرونة.
وإيمانا منه بأن من تعلم لغة قوم أمن مكرهم ونهل من علمهم. أتقن اللغة الفرنسية والإنكليزية والروسية. بالإضافة الى اللغة العربية.
ولأن تنمية الحياة الثقافية والعلمية جزء لا يتجزأ من تنمية المجتمعات، نظم مؤتمرات وندوات متخصصة أهمها:
1. ندوة حول العلاقة بين التعليم الجامعي وسوق العمل، شارك فيها عدة محاضرين من مايكروسوفت ووزارة الإتصالات، ووزارة الأشغال العامة والنقل وبلدية طرابلس ومرفأ طرابلس وغيرها، تناولت فرص العمل التي توفرها المؤسسات في الشمال والأعمال المرتقبة فيه والمشاريع التي تنوي الدولة إطلاقها كالمنطقة الإقتصادية الحرة ومعرض طرابلس الدولي، ومحطة التسفير وغيرها.
2. ندوة حول فروع الجامعة اللبنانية في الشمال وإمكانية زيادة الإختصاصات فيها حسب حاجات سوق العمل وشارك فيها رئيس الجامعة اللبنانية وجميع مدراء الفروع في الشمال، ومجلس الإنماء والإعمار الذي قدم تقريراً مسهباً حول البناء الجامعي الموحد في الشمال، ومدير عام وزارة النقل وغيرهم.
3. أربعة مؤتمرات دولية حول الـوســـطـيـة، كانت على الشكل التالي:
• الوسطية: مشروع الإنسانية الحضاري
• دور الوسطية الإقتصادية في التنمية والتطوير الاجتماعي
• دور وسائل الإعلام في تعزيز ثقافة الوسطية
• الوسطية ونهج الإستقرار في الشرق الأوسط.
وقد شارك في هذه المؤتمرات رجال فكر وسياسة وباحثين وسطيين من مختلف دول العالم العربي وتركيا وإسبانيا وغيرها، وصدر عنها كتب بالأبحاث التي قدمت والمناقشات التي جرت فيها، والتوصيات التي صدرت عنها. وفي أعقاب المؤتمر الأول، الوسطية مشروع الإنسانية الحضاري، تم تأسيس منتدى الوسطية في لبنان، الذي يرأسه الرئيس نجيب ميقاتي، وتمت تسمية الدكتور عبد الإله ميقاتي رحمه الله أميناً عاماً له.
4. مؤتمر طرابلس عيش واحد، بالتعاون مع جمعية إحياء التراث في المدينة، وقد شارك في هذا المؤتمرعدد من الباحثين والأساتذة الجامعيين في مدينة طرابلس، وصدر عنه كتاب بالأبحاث التي قدمت في المؤتمر.
شارك في تأسيس جمعية العزم والسعادة الاجتماعية التي أطلقها ورعاها الأخوان طه ونجيب ميقاتي، فكان عضواً في الهيئة الإدارية للجمعية ومشرفاً عاماً على أعمالها.
فأسس فيها عدة قطاعات منها: القطاع الصحي الذي يضم عدة مستوصفات في طرابلس وضواحيها، بالإضافة إلى المستوصفات الجوالة في القرى والمناطق النائية، والقطاع التربوي الذي يتولى دعم طلاب المدارس الرسمية من خلال إقامة دورات تقوية لهم وخصوصاً لطلاب الشهادات الرسمية، بالإضافة إلى قطاع القروض الجامعية، والقطاع الشبابي لطلاب الجامعات المعروف بإسم شباب العزم وقطاع المنتديات الذي يضم مختلف القطاعات من مهندسين وأطباء ومحامين وممرضين، وموظفي مصارف وتجار وغيرهم، والقطاع الديني الذي يشرف على عدة مساجد قامت بإنشائها جمعية العزم والسعادة الاجتماعية ويقيم الدورات التخصصية لإعداد الخطباء والمدرسين الدينيين، وغيرها…
وفي عام 2009 أوكل الرئيس نجيب ميقاتي إلى الدكتور عبد الإله ميقاتي رحمه الله بتأسيس وإطلاق مجمع العزم التربوي ليكون مديراً عاماً للمجمع الذي يضم مدرسة العزم، التي تم إنشاؤها بالتعاون مع الجامعة الأميركية في بيروت لتعنى بالتعليم التفاعلي والنشط، والذي يمثل خطوة متقدمة بالإنتقال من التعليم التقليدي القائم على مبدأ التلقين إلى التعليم الحديث القائم على مبدأ “المتعلم هو محور عملية التعليم”. كما يضم المجمع معهداً فنياً يجري التعليم فيه بالتعاون مع مؤسسة أيدكسيل البريطانية، المخولة بإعطاء شهادات دولية ، يحصل عليها طالب المعهد، بالإضافة إلى الشهادة اللبنانية. ويضم المجمع أيضاً مركز التطور الأكاديمي المعترف به من قبل كبريات الشركات في مجال المعلوماتية سيسكو ومايكروسوفت، والحائز على لقب أفضل أكاديمية سيسكو في الشرق الأوسط لعدة سنوات متتالية. كما يضم المجمع أيضاً مركزاً للتنمية البشرية، يعمل بالتعاون شركة Canada Global Center ويقيم دورات مختلفة في مجالات التنمية البشرية. بالإضافة الى جامعة العزم الذي تولى رئاسة مجلس أمنائها منذ العام 2015م.
هذا وقد أقام مجمع العزم التربوي مؤتمرين حول “الحداثة في التعليم” بالتعاون مع الجامعة الأميركية في بيروت، وشارك فيهما عدد من الباحثين اللبنانيين والأجانب المتخصصين في مجال التربية ورؤساء أقسام التربية في الجامعة اللبنانية والجامعات الخاصة. وتركّزت الأبحاث حول مناهج التعليم الحديثة وطرائق التعليم والوسائل التكنولوجية الحديثة المستعملة في التعليم. وكان رحمه الله شعاره في هذا المؤتمر : “لا يجوز بناء المستقبل بأدوات الماضي، بل يجب أن يكون بناء المستقبل بأحدث ما توصل إليه العلم الحديث من تكنولوجيا وطرائق ومناهج تعلّم حديثة”.
في العام (2015) انتخب عضواً للمجلس الشرعي الاسلامي الأعلى. الذي اعتبره المنصة الرئيسية للدعوة والإصلاح وتنمية المجتمع. ومنذ ذلك العام ولغاية وفاته، كان فاعلا ومثابرا ومبادرا في معظم لجانه وخاصة الدعوية والادارية والتنموية. فكانت بصماته واضحة في إعداد الخطة الاستراتيجية للمجلس. بالاضافة الى إعداد دراسات تنميوية للاوقاف الاسلامية في طرابلس والشمال. والسعي الدؤوب لتأمين مصادر تمويلها. وفي أيامه الأخيرة كان مهتم في انجاز مشروع تأهيل المقبلين على الزواج. الذي تكفل شخصيا بتمويله ومتابعته…
وكان شعاره في كل عمل يتابعه القاعدة الفقهية التي تقول: “ما لا يدرك كله، لا يترك جله”.. وكان يضيف عليها، “وما لا يدرك جله، لا يترك قله”…
وبالرغم من كل هذه الأعمال والمتابعات، لم يدخر جهدا في تحقيق البعد الديني و العلمي والثقافي، الذي يساهم في تنمية المجتمع الإسلامي. من خلال تفعيل دور المساجد في أحيائها وبين روادها، فكان حريص على حضورصلاة الجماعة والمشاركة في الدروس والحلقات والاحتفالات. وخاصة في المساجد التي شيدتها جمعية العزم والسعادة. وتشرف على إدارتها.
وإيماناً منه بأهمية نشْر المعرفة، ساهم في كتابة العديد من المقالات والأبحاث الفقهية والعلمية، بالاضافة الى تأليف عدد من الكتب، جعلها وقفا تنشر على نفقته الخاصة.
فكان كتابه الأول : “مدخل إلى فقه النعمة”، يتناول فيه الكاتب الآية الكريمة “وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها” ، حيث تحدث عن نعمة الخلق، ونعمة الإيمان، والنعم الخاصة التي أنعم الله بها على كل إنسان، بالاضافة الى كيف يكون الشكر على هذه النعم.
الكتاب الثاني: “مسيرة التعلم عند العرب” بين ماضٍ مشرق وحاضر أليم وغدٍ مرتجى.
يتكلم فيه د. عبد الاله – رحمه الله – عن الماضي المشرق الذي إنطلق مع دعوة الإسلام في شبه الجزيرة العربية، و”عن التقدم الكبير والملحوظ الذي حظيت̊ به العلوم على إختلاف أنواعها وتشعباتها في تلك الفترة، والتي امتدت من القرن الثامن حتى القرن الثالث عشر الميلادي. وقد كان لهذا التقدم أثرٌ مباشر في مسيرة الحضارة الإنسانية عموماً. وفي هذه الفترة أصبح العرب والمسلمون سادة العالم وبناة الحضارة فيه وأصبح علماؤهم منارات مضيئة في تاريخ العلوم.
وتحدث أيضاً. عن الحاضر الأليم بالأرقام والوثائق والمراجع، ويؤكد على أن معالجة الخلل الحقيقي في الشرق الأوسط لا تكون إلا من خلال التعليم، بكافة مكوناته، مدخلاته ومخرجاته. ويرى في تراجع إستعمال اللغة العربية جرحاً نازفاً يجب العمل على مداواته بأسرع ما يمكن.
ثم يتناول في الباب الثالث الغد المرتجى، وما يجب أن يكون عليه التعليم في القرن الواحد والعشرين، ويطرح في نهاية الباب الدعوة إلى “ثورة” التربية والتعليم لتغيير الواقع الحالي والبدء بمرحلة جديدة، تكون المرتكزات الثلاثة، الإيمان والعلم والعمل، فيها هي الطريق القويم لبناء الحضارة الإنسانية والمشاركة فيها بدورٍ فاعل.
أما كتابه الثالث: الذي كان قيد الجمع، حيث تم نشر العديد من صفحاته عبر مقالات بعنوان: “قــراءة فـي آيــة”.
رحم الله الدكتورعبدالإله ميقاتي الذي عمل بصمت وبعلم وإيمان راسخ ، بأن البذورالتي تنثر بجد وإخلاص ستعود بالنفع للعوام والخواص. رحل الدكتور عبدالاله ولم ترحل معه ذكراه الطيبة، وبصماته المتلألئة، فقد ترك ذرية صالحة، ومؤسسات عامرة، وطلابا وعاملين وإرثاً ثقاقياً وعلمياً ستبقى في صفحات التاريخ مشورة..