ليا القزي – الأخبار
الإدارة في مصرف لبنان هي شخص اسمه رياض سلامة، أحاط نفسه بثلاثة مديرين، وعددٍ من الموظفين الذين يُشكلون منجم أسراره وأداته التنفيذية. استغل الصلاحيات الواسعة التي يُجيزها له قانون النقد والتسليف، حتى يحصر كلّ الملفات به، مُلغياً دور المجلس المركزي للمصرف وبقية الهيئات التابعة للقطاع المالي، إلا حين يكون بحاجةٍ إليها لإضفاء شرعية على قرارات غير قانونية. لم يُثَر الموضوع طوال السنوات الماضية، لأنّ الغطاء السياسي كان مؤمّناً لسلامة، وصلاحيات مجلسَي الوزراء والنواب مفوضة إليه، إلى حين انطلاق المسار القضائي ضدّه وتحوّله إلى مُشتبه فيه بقضايا الاختلاس وتبييض الأموال. بعض الدول الغربية لم تعد راضية عن سلامة. باتت مُهتمة بمعرفة هيكلية البنك المركزي وآلية اتخاذ القرار فيه، لتستخدمها كأدّلة قضائية، والتحضير لإعادة هيكلة القطاع المالي
تنظيم عقد عملٍ بين مصرف لبنان ورجا سلامة (شقيق الحاكم، رياض سلامة)، تحويل الدولارات إلى الخارج من حسابات مصرف لبنان إلى حسابات شركات وأفراد لغاياتٍ شخصية، إصدار شهادات إيداع (مُنتج مالي يعني إيداع مبلغٍ من المال لدى «المركزي» وتجميده لفترة زمنية مُحدّدة، مقابل الحصول على معدّلات فائدة أعلى من تلك المعطاة على الودائع) استنسابياً للمصارف، حرية التصرّف بالدولارات التي أودعتها المصارف في حساب «التوظيفات الإلزامية»، القيام بعربدات مالية (تُسمّى هندسات مالية لإخفاء حقيقتها الجرمية بإعطاء أرباح للمصارف على حساب المودعين والمال العام)، إبرام اتفاقيات مع مؤسسات مالية ومصارف عالمية لتودع مبالغ مالية لدى مصرف لبنان من دون تبرير الغاية منها، إقراض المصارف من الأموال التي سبق أن أقرضتها لمصرف لبنان، المضاربة على العملة الوطنية… غيضٌ من فيض ارتكابات رياض سلامة خلال فترة تولّيه حاكمية مصرف لبنان. 28 عاماً، كان خلالها سلامة الحاكم بأمره، مُحتمياً بقانون النقد والتسليف الذي أعطاه صلاحية مُطلقة، وبالشراكة التي عقدها مع حكّام الجمهورية الثانية ــــ وعلى رأسهم رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري ــــ لـ«إعادة إعمار» لبنان ليكون «كازينو» الشرق، مُستثنيين عن قصدٍ الاهتمام بالتنمية والإنتاج على أنواعه.
ليس رياض سلامة موظفاً «عادياً» ــــ كما يتم التصوير للتخفيف من مسؤوليته عن الانهيار ــــ بل هو «الصانع الحصري للسياسات» (الوصف للبنك الدولي)، وإليه فُوّضت ــــ من دون قانون ــــ صلاحيات هي في الأساس من مسؤولية مجلسَي النواب والوزراء. وبحسب تقرير صادر عام 2017 عن البعثة المشتركة بين صندوق النقد والبنك الدوليين، فإنّ الحاكم «يتولّى التنسيق بين هيئات القطاع المالي، يقوم بأدوار مُتعدّدة، ويمتلك سلطات واسعة… النموذج المُتمحور حول الحاكم، يٌتيح تبادلاً للمعلومات وتنسيقاً فعّالاً، رغم ذلك، فإنّ تطوير القدرات المؤسساتية من شأنه التقليل من التأخّر في اتّخاذ القرارات، أو اتخاذها من دون وجود معلومات كافية».
الانطلاق من حقيقة أنّ سلامة هو المُقرّر والمُنفّذ والمراقب وصاحب سلطة المحاسبة، أساسي لفهم تركيبة مصرف لبنان، وآلية اتّخاذ القرار فيه. وقد بدأ يبرز الاهتمام في «فكفكة» هذه التركيبة مع فتح ملفات سلامة القضائية، وتحديداً التحقيق بحقّه في سويسرا بجُرم اختلاس وتبييض أموال، وبعد تعاقد الدولة اللبنانية مع شركة «ألفاريز أند مارسال» لإجراء التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان. فالادّعاء العام السويسري راسل القضاء اللبناني، طالباً من النيابة العامة التمييزية تفاصيل عن التقسيمات الإدارية في «المركزي»: أسماء المديرين والوحدات، ارتباطها بالحاكم… وكان هذا السؤال «أساسياً في التحقيقات القضائية مع نوّاب الحاكم الحاليين»، وفق أحد أعضاء المجلس المركزي لمصرف لبنان. كما أنّ أحد الأسئلة الأربعة التي وجّهتها «ألفاريز أند مارسال» تتعلّق بهيكلية مصرف لبنان وعمله التنظيمي وقواعد الحوكمة المُعتمدة لديه.
«الهدف الرئيسي معرفة إن كان سلامة قد استغل مركزه للقيام بالأعمال التي يتمّ التحقيق فيها»، يقول مسؤولٌ في إحدى الهيئات المُرتبطة بمصرف لبنان، مُضيفاً بأنّ «كَشف تفاصيل حول الإدارة وعدم وجود فصلٍ بين السلطات داخل كلّ من: لجنة الرقابة على المصارف، الهيئة المصرفية العليا، هيئة الأسواق المالية، لجنة مراقبة هيئات الضمان وهيئة التحقيق الخاصة، قد يؤدّي إلى انهيار كلّ منظومة القطاع المالي، وفرض إعادة هيكلتها كأساس لانطلاقة القطاع على أُسس سليمة». إعادة الهيكلة ستُصيب بشكل أساسي المصارف، التي منع سلامة في السنوات السابقة مُحاسبتها، «عبر تحكّمه بالملفات التي يرفعها إلى الهيئة المصرفية العُليا وما يضعه في الجارور». فلجنة الرقابة على المصارف عليها أن ترفع تقاريرها بشأن المصارف مباشرةً إلى الحاكم، على أن يُقرّر مُنفرداً أياً من تلك التقارير يستحق التحقيق فيه. إلا أنّ إعادة الهيكلة ستشمل أيضاً المصرف المركزي، وهذا يُشكّل أيضاً أحد مطالب صندوق النقد الدولي لإبرام اتفاقية برنامج مع لبنان، التي يُريد سلامة تطييرها، معرفةً منه بانعكاساتها السلبية عليه، وليس اقتناعاً منه بسوء برامج هذه المؤسسات الرأسمالية على المجتمعات.
يقول مسؤولٌ رسمي سابق إنّه حين تذكر المؤسسات الدولية إعادة هيكلة مصرف لبنان، «فذلك يشمل ثلاث نقاط: عودة البنك المركزي إلى ممارسة دوره الطبيعي، تخفيض نسبة الانكشاف على الدين العام، وآلية العمل في مصرف الدولة»، بعد وجود شُبهات ترتقي إلى مستوى الأدلة عن مخالفة سلامة لقانون النقد والتسليف، والتعدّي على صلاحيات ودور المجلس المركزي لمصرف لبنان المُكوّن من نواب الحاكم والمديرَين العامَّين لوزارتَي المالية والاقتصاد.
تختصر المصادر آلية القرار في مصرف لبنان بـ«مدير العمليات المالية يوسف خليل، ومدير التنظيم والتطوير رجا أبو عسلي. القرار الأساسي وتفاصيل عمليات الحاكم محصورة مع هذين الاثنين، قبل أن تنضم إليهما مديرة وحدة المكتب التنفيذي ماريان الحويك». أما مدير الشؤون القانونية بيار كنعان، «فيُطلَق عليه لقب الفاخوري، كونه يمتهن إدارة أذن الجرّة كما يطلب سلامة». أبو عسلي والحويك وكنعان، بالإضافة إلى مدير القطع نعمان ندّور، ومدير المحاسبة محمد علي حسن، كانوا من بين الذين خضعوا للتحقيق أمام النيابة العامة التمييزية، كشهود، في إطار المسار القضائي المفتوح بوجه سلامة بجرم اختلاس الأموال والتزوير واستخدام المزوّر والإثراء غير المشروع.
«قد نكون اتّخذنا قرارات تبيّن بعد فترةٍ تأثيرها السلبي على المجتمع، لأنّنا اطّلعنا حصراً على المعطيات التي أراد سلامة كشفها لنا» (عضو سابق في المجلس المركزي)
المادة 33 من قانون النقد والتسليف تُحدّد المهام الـ 12 للمجلس المركزي، والتي تُلخّص بوضع «سياسة المصرف النقدية والتسليفية». أما سلامة فقد اختصر «المجلس» بشخصه، مُحوّلاً إيّاه إلى مُجرّد «مُصدّق» على قراراتٍ يُحدّدها هو بالتعاون مع بعض المديرين في مصرف لبنان «يُدينون بالولاء المُطلق لسلامة، أسوةً بغالبية موظفي المصرف، المُعَينين بقرار منه ووفق محسوبيات طائفية وسياسية وشخصية». شكّل الحاكم «مجلس قيادة» البنك المركزي، منهياً دوره كـ«مؤسسة» عبر حصر كلّ الصلاحيات بشخصه. يُقرّر استنسابياً الملفات التي يعرضها على المجلس المركزي، وماذا يحجب، حتّى ولو وقعت في صلب السياسة النقدية. وحوّل باقي هيئات القطاع المالي إلى «المشتى» الخاصّ به، تُنفّذ ما يُطلب منها، ويستعين بها ليُغطّي قرارات يُدرك عدم قانونيتها. حصل ذلك في الـ 2017 حين أراد سلامة القيام بـ«هندسة مالية» لمصرف سيدروس يُحكى عن كونها جزءاً من «صفقة» تمديد ولايته، فعرضها على لجنة الرقابة على المصارف حتى ينال الغطاء القانوني لها، رغم أنّه لم يفعل ذلك مع الهندسات السابقة.
الهندسات هي أحد أهمّ القرارات التي اتخذها سلامة مُنفرداً. بدأت في الـ 2014، وأكسبت المصارف أرباحاً فورية بلغت 5.6 مليارات دولار سنة 2016 وحدها، وأرباحاً مستقبلية عبر التوظيفات في سندات دين بالعملات الخارجية. في مقابلةٍ مع قناة «الجديد»، قال المدير العام السابق لوزارة المالية (والعضو السابق للمجلس المركزي لمصرف لبنان) آلان بيفاني، إنّه عَرف بالهندسات مِن الرئيس ميشال عون. «وكلّما طلبنا عرض ملفّ الهندسات على المجلس المركزي، كان سلامة يخلق الأعذار للتهرّب، مُستفيداً من أنّه يحتكر أيضاً وضع جدول أعمال المجلس المركزي، ويرفض مناقشة بنودٍ من خارجه»، بحسب المصادر.
إلا أنّ مخالفة الأنظمة لم تقتصر على الهندسات، «سيطر سلامة أيضاً على قرار التصرّف بالأموال المؤتمن عليها في مصرف لبنان، ولا سيما الودائع التي تودعها المصارف لديه والتوظيفات الإلزامية». لا يعرف أعضاء المجلس المركزي حجم المبالغ الموجودة في حسابات مصرف لبنان، وماذا يشتري الحاكم بها، وكيف يُوزّعها… أُثير الموضوع مرّات عدّة في المجلس المركزي، وتمّت المطالبة بتحديد استراتيجية التوظيف والمعايير الواجب الالتزام بها، «من دون جدوى». وفي الإطار نفسه يأتي «توزيع القروض المدعومة بشكل مستقل عن أي استراتيجية نقدية واقتصادية»، وحين راسله وزير المالية علي حسن خليل طالباً معرفة كيفية توزيع القروض المدعومة من قبل الخزينة العامة، رفض سلامة بذريعة السرية المصرفية. هذه السرية نفسها فرضها على الوزير السابق جورج قرم حين أبلغ الحاكمَ بنيته إرسال مندوب من وزارة المالية إلى مصرف لبنان لدى إصدار سندات الدين لمراقبة العملية. قال له قرم إنّ السرية تنطبق على الدائن وليس على المدين، وإنّ من حقّ الدولة الاطلاع على توزّع أموالها. التزاوج يومها بين السلطات السياسية والنقدية والقضائية صبّ لمصلحة سلامة، مع إصدار هيئة الاستشارات والتشريع في وزارة العدل رأياً لمصلحة سلامة، لجهة إخضاع سندات دين الدولة للسرية التي تحول دون اطلاع الدولة نفسها على عملية بيع سنداتها! فالأخير كان يستخدم سندات الدين العام كوسيلة لمضاعفة أبراح المصارف، عبر اختيار البنوك المحظية التي تشتري تلك السندات التي تدرّ عليها فوائد سخية.
أيضاً، اتخذ سلامة مُنفرداً قرار إصدار شهادات الإيداع للمصارف، كما «التفّ مراراً على صلاحيات المجلس المركزي، حين عقد مباشرةً مع وزير المالية الأسبق، فؤاد السنيورة تحديداً، اتفاق استبدال سندات دين خارجية بدين سيادي مع الدولة»… وصولاً إلى انكشاف العقد مع شركة «فوري ــــ Forry»، أي شقيق سلامة، والتي وقّع معها عقد عمل بأكثر من 330 مليون دولار أميركي، وهو ما أدى إلى فتح تحقيق في سويسرا، ثم لبنان، بحق حاكم المصرف المركزي. ينفي أعضاء المجلس المركزي حين توقيع العقد (2001) علمهم بالاتفاقية أو حتى بشركة «فوري»، رغم أنّ العقد تمّ بناءً على قرار من المجلس المركزي بـ«تكليف الحاكم بالتوقيع». بخضوع المحاضر لسرية المداولات، كيف يظهر إن كان سلامة قد زوّر قراراً للمجلس المركزي أم أنّ الأعضاء ارتكبوا خطأ؟ تُجيب المصادر بأنّ الحاكم «كان يضع جدول أعمال فيه الكثير من البنود، وكلّ بند يتضمن رأي المديرية المعنية، وتُوَزّع البنود على أعضاء المجلس قبل 24 أو 48 ساعة فقط. وحين كنا نطلب تأجيل البحث لمزيد من الدرس، كان يردّ بأنّ الأمر طارئ، وسُرعان ما يطرحه على التصويت». لماذا لم يرفع الأعضاء الصوت ويستقيلوا؟ «في النهاية، يملّ المرء من كثرة الاعتراض وكتابة الرسائل التي تُضيء على الأخطاء، فيما سلطة الحاكم مُطلقة وأحد من السياسيين لا يُريد المسّ به». يعترف أكثر من عضو سابق في المجلس المركزي لمصرف لبنان بأنّه «قد نكون اتّخذنا قرارات تبيّن بعد فترةٍ تأثيرها السلبي على المجتمع، لأنّنا اطلعنا حصراً على المعطيات التي أراد سلامة كشفها لنا»!
القروض المدعومة: هدية سلامة لأعضاء المجلس المركزي
حين يُعيّن الأعضاء في مصرف لبنان أو المجلس المركزي، يُمنع عليهم الحصول على قروض أو تسهيلات من مصارف تجارية خاصة، لعدم تضارب المصالح. يؤمّن مصرف لبنان «البديل» عبر توفيره قروضاً مدعومة، أي بفوائد مُخفّضة، للعاملين فيه… «آلية استخدامها تحوّلت إلى تأمين الولاءات للحاكم رياض سلامة»، يقول أعضاء سابقون في المجلس المركزي. مثلاً، نال أحد الأعضاء قرضاً مدعوماً في التسعينيات «وظّفه في سندات الدين بالليرة، وآخر استثمر في قطاع البناء». لم تقلّ، إجمالاً، القروض المدعومة عن المليون و200 ألف دولار، «آخر المُستفيدين منها نواب الحاكم الحاليون، فوصلت قيمة قرض الواحد منهم إلى 1.3 مليون دولار». لم يبخل عليهم سلامة، رُغم أنّهم عُيّنوا بعد الانهيار في الـ 2019، والاستنزاف الحادّ في الاحتياطات الأجنبيّة. على العكس من السنوات السابقة، حيث ساد عدم التجانس بين بعض أعضاء المجالس المركزية من جهة، وحاكم البنك المركزي من جهة أخرى، «هناك اتفاق وتقارب بين المجلس المركزي الحالي حول الوجهة التي يُحدّدها سلامة». لا يحتاج الأخير إلى تخفيف لهجة محاضر الاجتماعات حالياً، كأن يُحوّل اعتراض عضو على بندٍ ما إلى «تحفّظ» أو «موافقة»، وهو ما يُتّهم بأنه كان يفعله قبل الـ 2019.