من ناحية، قد يكون عدد قرّاء قصصي المترجمة إلى لغات أجنبية، يفوق عدد قراء قصصي بلغتها العربية الأمّ؛ ولأنّي كاتب قصة قصيرة أوًلاً وغالباً، فقد تجعلني إقامتي في موقع واحد كاتباً محلّياً، من ناحية ثانية، أنتمي الى “الجماعات المغمورة أو الهامشية” حسب تصنيف فرانك أوكونور، صاحب كتاب “الصوت المنفرد”- وكان هذا الكتاب مصدراً نقدياً معتمداً لدى كتاب القصة في العراق والوطن العربي عند ظهوره مترجماً أوّل مرة بقلم محمود الربيعي، عن الهيئة المصرية، العام ١٩٦٩.
غير أنّ تصنيفاً تشجيعياً آخر لأوكونور نفسه، ينسب كتّابَ القصة القصيرة الى مجتمعات قومية تمتاز بخصائص فريدة، كانتساب جيمس جويس إلى آيرلندا، وأنطون تشيخوف ونيقولاي غوغول إلى روسيا، قد يجعلنا نفسّر براعة غسان كنفاني في كتابة القصة القصيرة لانتسابه إلى القومية العربية الفلسطينية أو نادين غورديمير إلى الأقلية البيضاء في جنوبي أفريقيا أو عزيز نسين إلى الجماعات المنزوية في تركيا. لكن هاتين الميّزتين، الهامشية والفئوية، لن تساعد كاتبَ القصة القصيرة على الانتشار ما لم تنقذه ترجمةُ قصصه إلى لغات ثانية وتنسبه إلى العالمية.
وقد نُنقِذ الموقف، من جانبنا، بتعريف خاصّ للقصة القصيرة يعتبرها: أقصر برهان على الوجود الكبير للعالم. وهو يعني أيضاً: القصة القصيرة انفعال بسيط تجاه معضلات وحوادث معقّدة. والبساطة في القصة القصيرة قد تعني: الجوهر الذي لا يتجزأ بين أجزاء متناهية في الصِّغر. لكن قد يقوم الظنّ فيعتبر أيَّ تعريفٍ آخر للقصة القصيرة، مستمدّ من فيزياء الكمّ، أو مذهب الذرّة عند المسلمين، أو من مباهج الفلسفة، فاقداً لقوّته إزاء حقيقة إقبال المترجمين على أنواع مفضّلة من السّرد كالرواية، فالروايات أقدر من القصة القصيرة على مناقشة الوجود والتاريخ ومستقبل الإنسان على الأرض؛ والروائيون قلائل وغالباً ما يوجّهون أنظارَ المترجمين إليهم، عكس اتجاهها نحو كتّاب القصة المنتشرين في قارّات العالم؛ فهؤلاء لا عدَّ لهم ولا تعيين لمواقعهم.
وبسبب هذا التزاحم على مواقع الضوء والشهرة، صرتُ أميل إلى جمع مختاراتٍ مترجمة لقصص “المغمورين” في بلدانهم، عسى أن تذكّرني قراءتهم بوجودي على هذا الطرف من العالم؛ بل حرصتُ على أن تحتوي مكتبتي الخاصة قصصاً مترجمة لكتّاب من آسيا وأفريقيا، وكاتبات أميركيات من أصول هجينة، فذلك يقرّبني أكثر من ترسيخ عضويتي في أكاديمية متخيَّلة انشأها المترجمون على تخوم بلادي.
أنهيتُ قبل أيام قراءة مجموعة قصص قصيرة، تضمّ (٢٥) نصّاً لقصّاصين من أوربا، اختارها الكاتب السلوفيني (دراغو يانتشار) من بين أفضل النصوص القصصية المترجمة للإنجليزية من لغاتها الأصلية المتعدّدة في العام ٢٠١٤، ضمن تقليد يرعاه ناشرون في أميركا للقصص الفائزة بجوائز أدبية سنوية، ثم أصبحت مختارات ٢٠١٤ في حوزة الناشر العراقي- دار سطور- بعد أن ترجمت السيدة أماني العبدلي نصوصَها للعربية عام ٢٠١٧. حَوَت المجموعة المختارة قصصاً قصيرة مترجمة لكُتّاب من بلدان صغيرة مثل: بيلاروسيا وأستونيا ولاتفيا والبوسنة والهرسك والجبل الأسود وسلوفينيا وآيسلاند . غير أن ما رسخَ من قراءتي المختارات قصةٌ مدهشة لكاتب من دولة صغيرة، لا يزيد عدد سكّانها على ٤٠ ألف نسمة، هي إمارة ليختنشتاين الواقعة في أوربا الوسطى على جبال الألب بين النمسا وسويسرا.
إنّ ما يعنينا من هذه المجموعة المترجمة، غزارة الرؤى والمواقف الفريدة التي يمكن أن تقدّمها القصةُ القصيرة حول العالم خلال عام، وعدد القصّاصين غير المعروفين من دول مختلفة وهم يجتمعون في أنطولوجيا مترجمة- وعسى مؤشّر بوصلة الاختيار يميل نحو الكتّاب العرب، فيحظَون بترجمة قصصهم للإنجليزية كما حظِيَ بذلك كتّابُ دول أوروبا. أمّا الدلالة الكبرى من قراءتنا هذه المجموعة المختارة، فتتمثّل في “مجهولية” كاتب القصة القصيرة إزاء “معلومية” كُتّاب الرواية في العالم، حيث يذكّرنا الوضع النادر هذا بحكاة القصص المجهولين الذين يعبرون الحدود من دون التعريف بهويّاتهم، أو بأعضاء جمعيةٍ صغيرة يجتمع أفرادها دورياً في قاعة فندق قديم بمدينة ألمانية لتبادل الافكار حول قراءاتهم للنصوص الأدبية القديمة، كما يحدث في قصة القاصّ جينز ديتمار، من إمارة ليختنشتاين الصغيرة، الذي شغلَ محورَ حديثنا القصير هذا.) مقطع من محاضرة القاصّ العراقي، محمد خضير: “القصة القصيرة وطقوس الترجمة”، في كلية الآداب- جامعة البصرة- بتاريخ ٩/ ١١/ ٢٠٢٤