كتبت ليلى دندشي
البدايات الأولى للهجرة إلى نيجيريا أو رحلة الإغتراب اللبناني إلى هذا البلد الأفريقي الشاسع، تعود إلى العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر، ليتكثّف هذا الوجود اللبناني ويتنامى عبر السنين ويزداد ليناهز عشرات الآلاف من المهاجرين.
ونيجيريا من البلدان الأفريقية الكبرى، وتحتل مركزا مرموقا على ساحة القارة السوداء، وهي غنية بمواردها الزراعية والطبيعية وإزدادت غنى وثروة في أعقاب إكتشاف النفط في أراضيها وبكميات كبيرة منذ مطلع القرن العشرين.
وقد نزل البرتغاليون على شواطىء نيجيريا في أواخر القرن الخامس عشر يوم كانت مركزا لتجارة الرقيق، وكانوا يحملون الكشّة على ظهورهم ويبيعون الخرز والخرضوات وغيرها قبل دخول اللبنانيين إليها، وبعد ثلاثة قرون إستقرّ البريطانيون في العاصمة لاغوس وإستمر إستعمارهم إلى العام 1945 حيث تم إستحداث عاصمة جديدة في وسط البلاد تدعى “أبوجا” ونُقلت إليها أجهزة الوزارات والمؤسسات والشركات التجارية الكبرى كما أنشىء فيها مطار جديد.
ويعتبر إلياس الخوري يونس من بلدة مزيارة في شمال لبنان أول المهاجرين إلى نيجيريا في العام 1885 لذلك أطلق عليه أقرباؤه إسم “كولومبوس” اللبناني وتبعه على مدى السنوات اللاحقة مواطنون من بلدة مزيارة ومن بلدة جويّا الجنوبية أمثال كامل السعيدي وإبراهيم عرب.
ومن مقالات خلّفها المونسنيور جرجس السبعلاني كتبها في أوائل القرن العشرين، نجد أن صاحبنا كولومبوس هذا قد وصل إلى العاصمة لاغوس خائر القوى منهكا من التعب بعد جولة له مع عدد من مواطنيه المزياريين شملت مالطا ومرسيليا والشاطىء الغربي لأفريقيا، فنام عند جذع شجرة وعندما إستيقظ كان جائعا للغاية، فطلب طعاما من الصبية السود الذين تحلقوا من حوله، وذلك بإشارة من يده لعدم معرفته اللغة المحلية، فقدموا له بعض الموز وجوز الهند لينطلق من ثم في شوارع لاغوس حاملا كشّة.
واجه اللبناني الأول في نيجيريا مع مواطنيه من أبناء مزيارة وجويّا الكثير من الصعاب والمشاكل، فعاشوا على غرار أبناء البلد الأصليين، يفترشون الأرض وينامومن على أغصان الشجر خوفا من الحيوانات المفترسة، ويشربون ماء جوز الهند ومياه الأنهر والأمطار ويُشعلون النار للتدفئة والإنارة قبل إستعمال سراج الكاز، ولكنهم مع الأيام أخذوا يُحسنون من طعامهم وفراشهم وإستعملوا “الناموسية” لمنع البرغش والحشرات وإستخدموا التقطير للحصول على المياه النظيفة.
حمل كولومبوس وأقرانه الكشّة وفيها بضاعتهم المتنوعة وجالوا على قرى السود الصغيرة حيث عُرف اللبناني بإسم “كورال” أي بياع الخرز وهو لقب أطلق على البرتغاليين الذين كانوا يحملون الكشة المليئة بأنواع الخرز.
وعمل المهاجرون الأول في بيع البضائع بالمفرّق مثل الأقمشة والمرايا والخرضوات قبل أن يتجمعوا بصورة خاصة في مدينة “كانو” وفي الولايات الشمالية من نيجيريا.
ويُشير سليم حبيس أول قنصل فخري للبنان في “كانو” وهو من بلدة مزيارة وصل إلى نيجيريا في العام 1946، إلآ أن التحوّل الكبير على صعيد المهاجرين اللبنانيين حصل في “كانو” حيث عمدوا إلى بناء الأكواخ ودكاكين التنك والخشب والطين وألحقوا بها غرفا صغيرة للنوم بغية الإستقرار وتحولوا إلى جالية لبنانية تتعاطى البيع بالمفرّق وإندمجت مع السكان المحليين الذين أخذوا يتزودون بالبضائع من التجار اللبنانيين ويجولون بها على دراجاتهم الهوائية لبيعها والمتاجرة بها. كما إشتعل بعض اللبنانيين في نقل البضائع بواسطة سيارات الشحن فكانوا يقودونها بأنفسهم وينامون على مقاعدها أو يبيتون لدى السكان في القرى.
ولأن معظم المهاجرين الأوائل من اصول ريفية وقروية في لبنان فقد عمدوا إلى إنشاء الحدائق والبساتين حول أكواخهم وبيوتهم في “كانو” وبقية الولايات النيجيرية، وأهتم هؤلاء بزراعة الخضار والفواكه وخاصة تلك المجهولة من قِبل النيجيريين كالتفاح والليمون أفندي والأكيدنيا والبازنجان وكل تلك التي تدخل في إعداد “التبولة” اللبنانية كالخس والبقدونس والنعناع إضافة إلى الفجل والبندورة.
وعن اللبنانيين أخذ النيجيريون زراعة هذه الأنواع إلى جانب العنب الذي كان اللبنانيون يزرعون كرومه حول منازلهم ويعطي ثماره مرتين في السنة نظرا لملاءمة المناخ وجودة التربة، واللافت أن النيجيري الذي برع في هذه المزروعات كان يحمل على راسه أو على دراجته الهوائية سلة مملوءة بأنواع الخضار والفاكهة المذكورة ويجول في الشوارع التي يسكنها اللبنانيون بغية بيعها مناديا باسماء ما يحمله بلغة عربية صحيحة.
وتزامن كل ذلك مع إنشاء نادٍ لبناني في “كانو” ومن ثم في سائر المدن النيجيرية الكبرى.
ويذكر القنصل حبيس ان اللبننانيين في “كانو” لم يعتادوا على الإحتفال بعيد الإستقلال حتى العام 1947 حين إتخذ مع المغترب محمد قاسم حمود خطوة هامة في هذا المجال ونظّما مع أبناء الجالية إحتفالا عشية الذكرى بحضور حشد من الرسميين النيجيريين والشخصيات الأجنبية في قاعة النادي اللبناني، حيث رُفع لأول مرة علم لبنان وصورة لرئيس الجمهورية، كما رُفعت الأعلام اللبنانية على المحال والمنازل في الشوارع التي يقطنها اللبنانيون.
ومن أرشيف القنصل حبيس أن جورج سليم عبد من مزيارة ورؤوف حلاوي من الباروك كانا من أمهر الصيادين في نيجيريا وكانت السلطات المحلية تستعين بهما لقتل الحيوانات المفترسة والفيلة عند مهاجمتها بعض القرى الصغيرة النائية.
ومواطنهما حسين حلاوي كان طويل القامة قوي البنية وضخم الجثة وعُرف في “كانو” بلقب “بن غوما” أي قاتل العشرة بلغة قبيلة “الهوسا” المحلية.
وللتسمية قصة طريفة وهي أن حسين حلاوي صفع يوما بيده أحد النيجيريين على وجهه فأسقط له عشرة أسنان دفعة واحدة.
أما فارس رفول فكان أول مليونير لبناني في الخمسينات من القرن المنصرم، وكان الوحيد الذي يدخّن السيجار من نوع تشرشل ويقلّد الأخير في حركاته ومشيته حتى أن إسم تشرشل اُطلق عليه وعُرف بهذا اللقب.
ويُعتبر سمعان نعوم ال”كولومبوس” الثاني فقد وطئت قدماه أرض العاصمة لاغوس في العام 1900 ومنها إنتقل إلى “كانو” ومعه قافلة من الخيل تحمل أقمشة وخرضوات وسلعا أخرى وكان يرافقه عدد من أبناء البلد السود عبر الأدغال والغابات، سلاحهم السيوف والخناجر والفؤوس والرماح لحماية القافلة خلال الرحلة التي دامت ثلاثة أسابيع.
وعند وصول سمعان إلى “كانو” لم يكن فيها سوى عربي واحد من غير اللبنانيين وهو من ليبيا ويدعى “أبو غرين” وإستطاع سمعان بمدة قصيرة بيع بضاعتهوعاد إلى لاغوس وأطلع عميد الجالية مايكل إلياس على ننتائج رحلته الموفقة والطرق التي سلكها وما لاقاه من مصاعب في الطريق وأن بيوت “كانو” ترابية وأكواخها من قش وهي محاطة بسور له 16 مدخلا وتخضع لإمرة أمير محلي.
تبقى الإشارة إلى أن بلدة “مزيارة” تقع في قضاء زغرتا الزاوية ويتم الوصول إليها عن طريق بلدة إيعال التي لا تبعد كثيرا عن عاصمة القضاء، وتشتهر بمبانيها واسقفها القرميدية وقصورها الجميلة.