“نأتي إلى يومِك الأخير من أيامِكَ كلِّها، “بالدّمعِ حينًا وبالتذكارِ أحيانا”؛ بالمودّاتِ التي رصَفْتَها جسرًا من قلبكَ إلى كلِّ قلب، بالمناقبِ التي عشتَ فيها… وبها… ولها…. وبهذا الرداءِ الأسودِ الباكي على خروجِكَ منه إلى كفنٍ أبيض. وتعرفُ أننا بعدَك ألسنةٌ خرساءُ الكلمات وعيونٌ فصيحةُ العَبَرات، وأنَّ الزمنَ الذي صنعتَه بيننا ممتلئٌ بحضورِكَ، كما بعطرِ وردٍ نسْمةُ ربيع… فلماذا تعجَّلْتَ هذا الرحيلَ على غُرَّةِ العيدِ؟ كيفَ ملأتَ مساحةَ أشواقِنا بالغياب؟
وبأيِّ فضائلِكَ أحدِّث؟ أبالغِنى المعرفيِّ الذي نقَلْتَه إلى الأجيال التي تربَّت على يَديْك؟ أم بالاستقامة التي لم تَحِدْ عنكَ يومًا؟ أم بالألقِ الذي كنتَه حيثما كنتَ في مواقعِ العملِ الوطنيِّ والنقابيِّ والمهني؟ أم بالوداعةِ التي تدفَّق نبعُها من بسمةٍ فيكَ أو عَبْسةٍ على السّواء؟ أم بالمواقفِ التي ارتفعَتْ كثيرًا حين وقفتَها مدافعًا عن الوطن والقيم، وعن طرابلسَ وأهلِها، وعن النقابة والقضاء والحقِّ والحقيقة؟
لم يكنْ مكتبُكَ مكانًا لمزاولة المحاماةِ فحسب، بل كان أولًا وقبل كلِّ شيءٍ، بيتَ عائلةٍ ومعهدَ حقوقٍ ومدرسةَ أخلاق. أسرابٌ نمت في ظلِّ جناحَيْك، ثمَّ خرجَت إلى الريحِ تقاوم الريح بكرامةِ ريشِها الذي صلَّبْتَهُ فيها بالقانونِ المنيع والخلُق الرفيع. ويوم استجبتَ نداءَنا إلى سدَّةِ النقابة، كنتَ المثلَ الأعلى في الأبوةِ الرؤومةِ والقيادة الحكيمة والحضورِ الساطعِ في المحافل. وأنا التي رافقتُك طَوال ولايتِك، أشهدُ عن قربٍ للفخرِ الذي كنّا نختالُ به يوم نمشي وراءَك، أو نجتمعُ وإيّاك، أو نسمعُ لك خطابًا، أو نُصْغي إلى حديثِ الناسِ فيك.
مسيرتُك التي خلالها بيدِكَ كتبتَ غدَك، وبأياديكَ عمَّرْتَ وجودَك، جعلْتَها للمحامين منهلًا لعزَّةِ النفسِ والحكمةِ والحزم، والتزام القانون عيشًا ودراسةً، والتشبُّثِ بالقيم والمبادئ، حتى لَأَنْتَ التجسيدُ الحيُّ لليمين التي ارتفعَت بها أيمانُنا يوم انتسبنا.
بكَّرْتَ يا أبا عشير. الموتُ – وهو حقٌّ – ما كنّا الآنَ أهلًا بأن يكسرَ ضوءَكَ… وقلوبَنا. ها قد عبرتَ للمرةِ الأخيرةِ شوارعَ المدينةِ التي أحببتَ، لكنَّكَ ستظلُّ فيها قنطرةً من ياسمينٍ أبيضَ كقلبِك، ونفحةً من زهرةِ ليمونٍ توزِّعُها نسائمُ ذكراك، وصخرةً من حقٍّ رابضةً أمام دار النقابةِ وقصر العدل، تتكسرُ على صلابتِها العاديات.
ويا أبا عشير
في الحبر متَّسَعٌ كثير، لكنَّ الحروفَ إذا اشتدَّ بها الحزنُ تأوي أخيرًا إلى أبجديَّةِ صمتِها. فسلامٌ عليك حاضرًا عندَنا… إلى أن نحضُرَ نحنُ عندَك.