صدرت عن “محترف أوكسجين للنشر” في أونتاريو، نوفيلا للكاتب العراقي حسنين حيدر، وحملت عنوان “كافكا البغداي”. وهي أول إصدارات سلسلة “نوفيلا أوكسجين”، وأول إصدار للكاتب (مواليد 2002).
تنطلق النوفيلا باستهلال للشاعر العراقي خضير ميري: “مادّاً يدي إليّ/ أنا القتيل الذي تكرَّر”، وهي عبارة تفتح البابَ أمام تحوّلات “ك” وحيواته وميتاته المتكررة، بطلنا الذي نرافقه في مراحل عمرية تنتقل في خطٍّ زمني متعرّج عبر تسعة فصول تختتم بفصل عاشر نقف فيه على “محاكمة الكاتب”. لا غرابة أن يكون حرف الكاف هو أيضاً الحرف الأول من صفة “كاتب”، وحسنين حيدر يمضي بنا في عالمه العجائبي الموازي لواقع أكثر عجائبية، فبطله “ك” يميلُ بشكل فطري لكل لونٍ داكن، الأسود والرمادي وكل ما هو متطرّف من الألوان، حتى وهو يختارُ قطاً ليصحبه معه أو حتى والنجوم تصحبه إلى القاع وهو يكرّر كلمات شكسبير على خشبة المسرح، أو وهو يرقص رقصته الأخيرة في شقة صديقه، ويسقط مضرجاً بدمه قبل أن ينهي قصيدته في ساحة عامة بالعاصمة بغداد.
نحن إذاً أمام سيرة عجائبية للبطل مجهولِ الاسم، المتمسك بزمنه الزئبقي وحالاته الإنسانية المتعدّدة، أو كما جاء في ما يشبه بطاقة تعريفية في كلمة الغلاف: “الاسم: “ك”. الولادة ومكان الإقامة: بغداد. العمر: طفل في مقتبل/منتصف/أواخر العمر. “ك” حيٌّ يرزق لكنه جرّب الموت مراراً، ويستطيع أن يحدثنا عنه، وعن القطط والعزلة والحب والحرب والمسرح والشعر والقتل والعمائم والشهداء ونحو ذلك. من علامات “ك” الفارقة: 1- كائنٌ مجازي عابر للزمان والمكان. 2- ساخرٌ وحكاياته عجيبة ومليئة بالكوميديا السوداء أو الحالكة. 3- “ك” من صنيع كاتب موهوب جداً اسمه حسنين حيدر وهذا أول كتاب له، وهو بلا شك كافكا البغدادي، أو ما يمكن أن يكون عليه كافكا لو كان من مواليد بغداد في عصرنا هذا”.
تبدو الانتقالات من فصلٍ إلى آخر في نوفيلا حسنين حيدر حادة وصادمة، لكن خيطاً غير مرئي يمسكُ بكل تفاصيلها، لنكون حيال سردٍ ينتقلُ بنا من مشهدٍ إلى آخر ومن حالة إلى أخرى، وينقل لنا ما مرّ به البلدُ من تمزقات وانهيارات ومحاولات دائمة للتمسك بالأمل والثورة والحياة والحرية، فهناك صوتٌ لكل من صودرَ كلامُه، ينخفض حيناً ويرتفع أحياناً أخرى، وبلا شك نحن أمام كاتبٍ استطاع أن يسردَ لنا، في صفحات قليلة، تأمّلاً عميقاً للحياة باتقادها وانطفائها، باشتعال شرارتها في أعيننا وانخمادها ظلماً وقهراً، كما لو أننا، كما البطل “ك”، ننظر إلى “كاميرا كبيرة ظلّت تبتعد وتبتعد إلى أن اختفت داخل الجدار”.
جاءت نوفيلا “كافكا البغدادي” في 80 صفحة، وتوزعت عبر عشرة فصولٍ قصيرة، عنوِنَ فقط الفصل الأخير منها بـ “معضلة الخاتمة أو محاكمة الكاتب” ومنه نقرأ:
“هناك أربابٌ كُثر في هذا العالم أغلبهم معلنٌ ولهم أتباع، ومنهم من يُصِرّون على أن يكونوا غير معلنين، ومن ضمنهم إله الكتابة الذي يتضرّع إليه «ك» في كل ليلةٍ بأن يساعده ويبعث إليه ملاك الإلهام ولو لمرّةٍ أخيرة. «ك» الذي خسر معظم وزنه منذُ بداية كتابته، أدرك أيّ لعنةٍ هي حياةُ الكُتّاب، وأنها حياةٌ لا تليق إلا بالمهووسين وأنصاف المجانين أمثاله، فالأمر أشبه بأن تكون عارياً دائماً أمام المرآة، أن تحكي عن ذاتك من خلال آخرين لا تريد أن تتعرّف عليهم في الحياة الواقعية، لأنك ببساطةٍ لن يعجبك أن تتعرّف على شخصٍ يشبهك، أن تكون على حافة الانتحار بشكلٍ متتالٍ، أن تقف على الضفة الأخرى من النهر، وأنت تلوّح لعالمٍ منهار”.
ولأن البطل “ك” أو الكاتب أو حسنين حيدر أو ثلاثتهم معاً، يميلون إلى الداكن من الألوان فعلينا أن نخمِّن مَن مِنهم صاحب الجثمان الملقى على الأرض في آخر النوفيلا وحوله بركةُ حبرٍ أسود!