صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب في مستوصف الفلسفة: محاولة رسم معالم علاج بديل للباحث هشام بن جدّو. وهو محاولة لإعادة فتح سجلّ المفكَّر فيه على درب العلاجات النفسية والعقلية المعتمَدة، والتساؤل عن بديل لبلوغ الصحة النفسية والعقلية من الطرائق والمناهج المعتمَدة، وأسس فلسفات العلاج السائدة، ومنطلقات العلاج ومسلَّماته ومناهجه المتَّبَعة، في ما يمثّل مطلبًا لتحيين الموروث الفلسفي، اليوناني منه والشرقي.
يقول المؤلف، الذي كان منصرفًا إلى رصد إشكالية “سؤال القيمة” ونقد آليات التشخيص في التحليل النفسي، إن فكرته انقدحت في ذهنه بعد أن لفتت انتباهه طريقة تقديم غي فليكس ديبورتاي (أستاذ مقياس التحليل النفسي في قسم الفلسفة في جامعة السوربون) أفكار سيغموند فرويد، وعرضه أفكار جاك لاكان بصورة البداهات العلمية. ويرى أن التحليل النفسي ليس مجرد منهج للعلاج، بل فلسفة متكاملة تحدد وجهتَي المعياري والمعرفي معًا، وترسم وجهة التربية والممارسات الاجتماعية، خصوصًا ما تعلق منها بالدين. ويضيف أنه عاين خلال استقصائه تراث التحليل النفسي في كتابه هذا، وجود فروق جوهرية في تحديد مفهوم الطبيعة الإنسانية من فرويد إلى كارل يونغ مرورًا بدونالد وينيكوت وجان بنيامين ستورا وميلاني كلاين، وحتى عند آنّا فرويد وفرانسواز دولتو، على الرغم من محاولة بعضهم تبرير منطلقات التحليل النفسي كما قررها فرويد.
المقاربة الرئيسة
تُسائل مقاربة الكتاب بدهيّات فلسفات العلاج القائمة في التحليل النفسي وطب الأمراض العقلية عن وقوع رأس مال الصحتَين النفسية والعقلية في “زوغان البداهة”، وعن التخبط المعرفي والمنهجي الذي نعاينه في تباين فلسفات العلاج، وإذا ما كان طبيعيًّا أم أنه استلاب وتخبط حالَا دون بلوغ مقصد الصحة النفسية والصحة العقلية.
يذهب الكتاب في اتجاه مغاير علميًّا للأسطورة، أو العلم الكاذب، باختبار المدى العلاجي لأفكارٍ يصفها المحللون النفسانيون وأطباء الأمراض العقلية بـ”مصدر” الأمراض النفسية والعقلية والوساوس المزمنة واضطرابات السلوك ومخاوف المرضى، وجعلِها تتجاوز اعتبار الإيمان مرضًا، بل الدفع إلى أنه جزء أصيل من الطبيعة الإنسانية، وقريب إلى الكفاية الفاعلة والإيجابية، ويستطيع المساهمة في بلوغ الصحة النفسية، وكذلك الفن والحياء والحب هي كفايات أصيلة تؤكد دراسات في حقول البحوث والدراسات العصبية وعلوم المعرفة أنها ذات مدى علاجي، وكذا العلاج المعرفي السلوكي، ثمرة الانفتاح على التراث الفلسفي، اليوناني منه والشرقي.
تقوم مقاربة الكتاب على عدم نهائية المنجز العلاجي؛ فالطبيعة الإنسانية كفاية مفتوحة وليست نهائية كما تُظهرها مقررات المحللين النفسانيين والأطباء العقليين. وتدعو المقاربة كذلك إلى إعادة النظر في بداهات العلاجات القائمة، ومن ثم قلب تقنياتها ومناهجها، وإعادة قولبة الروح العلمية الموجِّهة للمشتغلين في الصحة النفسية والعقلية، ونقل طرائق سلوك وتفكير ورياضات روحانية من وضع المسؤول عن الأمراض إلى وضع المعالِج المتصالح مع الطبيعة الإنسانية التي أسبغت عليها العلوم الإنسانية والاجتماعية مفهومًا تشاؤميًّا، عبر تجاوز نظرتَي مقررات التدريس الطوبوغرافية والطوبولوجية والذهاب في استشراف بدائل علاجية تتجاوز طوبيقا فرويد وطوبيقا منطق الاستيهام اللاكاني، وتقديم علاج بديل تعبّر عنه تخصصات جديدة تتجاوز المتعارَف عليه، ومنها “التحليل النفسي الروحاني”، وهو امتداد لـ “علم النفس الإنساني” و”علم النفس التحليلي” ليونغ، و”علم النفس الوجودي”، و”العلاج المعرفي”، و”العلاج العقلاني الانفعالي السلوكي”، و”التأمل بالشعور الكلي”.
إشكالية الكتاب
تدور إشكالية الكتاب حول تطور دِرْبَة العلاج الفلسفي القائمة على رعاية كفايتَي التعقّل والتخلّق، ما تطلَّب إعادة قراءة أرشيف الفلسفة قراءةً علاجية، بحثًا عن لحظات الوعي النوعي بحقيقةِ تسفُّل الطبيعة الإنسانية وسموّها، ولرصد طبيعة النفسي والعقلي في البحوث والدراسات العصبية. وقد صيغَت من هذه الإشكالية الأسئلة التالية: كيف يساهم النص الفلسفي في بلورة دربة العلاج الفلسفي؟ كيف تَذهَّن الفلاسفةُ الطبيعة الإنسانية باعتبارها المنطلق البنائي في رصد النفسي والعقلي وتوصيفهما؟ ما أهم التقنيات التي استعملوها لإثراء فلسفات العلاج القائمة؟ أيُّ بديل طوروه لتجاوز منهج التحليل/ التأويل المعتمد في الطبَّين النفسي والعقلي؟
يتوزع الكتاب على أربعة فصول. يجتهد الفصل الأول في الدفاع عن مشروعية “الطب الفلسفي” في خريطة الاستشفاء النفسي والعقلي، باستقراءٍ تتبَّع نشأته في مختلف الثقافات، الشرقية القديمة والصينية والهندية والمصرية ثم اليونانية بمختلف مدارسها، الأفلاطونية والأرسطوطاليسية والرواقية والإبيقورية، وأخيرًا لدى الفلاسفة والأخلاقيين العرب القدامى. وفي ما يخص العلاج البديل، يحدد الفصل شروط التعامل مع النصوص الفلسفية التي تحكم دربة العلاج البديل، بتحديد المفاهيم المرجعية للطب الفلسفي التي حُيِّن بعضها لتكون وسيلة للانخراط في النقاش حول قيمة الطب الفلسفي ومشروعيته.
أما الفصل الثاني، فيعرض ثلاثة نماذج لممارسة دربة العلاج الفلسفي تحقّق فيها شرط الإحاطة النظرية من جهةٍ، إضافة إلى إلمامها بالثقافتين الطبية والفلسفية من جهةٍ أخرى. وهذه النماذج الثلاثة هي: أولًا: تعقّب مشروع أرسطو على مستوى الصحة العقلية من خلال الطوبيقا، وإصلاح النفس من خلال مصنفه في النفس. ثانيًا: تناول مشروع كارل ياسبرس المرجعي للطب الفلسفي بالبحث، من خلال مصنفات مرجعية ثلاثة له يمكن من خلالها معاينة التقاطعات في مشروعه بين علم الأمراض العقلية والفلسفة. ثالثًا: محاولة تفسير القصد من الرجوع المتكرر في جمعية التحليل النفسي العالمية إلى الفيلسوف ميشيل فوكو لنقد وجهة التحليل النفسي ومراجعتها في ما يخص الوضع المأزوم الذي صار إليه واقع ممارسة الطبين العقلي والنفسي، مع إبراز قيمة مشروع فوكو في فتح باب النقاش حول اللامفكَّر فيه في طرائق العلاج العلمية المعتمدة.
يستعرض الفصل الثالث جهد أرسطو من خلال مصنفَين له في مصالحة الحكمتين العملية والنظرية، باعتباره أول مَن أسَّس الأخلاق علميًّا. ويبيّن الفصل قيمة الجهد الأرسطي لتقعيد علم الأخلاق وتجذير مران التخلّق، ويسلط الضوء على المنهج العلاجي للعقلانية التطبيقية، مع التطرق إلى جهد الأخلاقيين العرب ومقصد العلاج الأخلاقي التوفيقي الذي تواضعوا عليه. ويتناول كذلك بالبحث مضامين أخلاقية، مثل الحياء، الذي يُشَخَّص عادةً بأنه سبب الأمراض النفسية، ويضيء على الوجه الآخر للحياء، وهو الوجه العلاجي والقيمي الإيجابي، وعلى الصداقة ودورها في انبثاق الوعي الإتيقي وتعويض عقدتي “أوديب” و”إلكترا”، والسعادة بين مطلب الصحة والكمال، مع تقييم الجهد الأرسطي في ترشيد الاشتغال بالأخلاق في جانبها العلاجي.
وأخيرًا، يحاول الفصل الرابع حصر بعض توصيفات الصوفيةِ مظاهرَ الحياة النفسية والعقلية، وبخاصة ما يتعلق بطبيعة الوسواس والنرجسية والحقد وحب التملّك والسادية والمازوشية، ويُبرز التقنيات التي وظَّفها الصوفية لبلوغ الراحة النفسية، ومساهمة تجاربهم في نشأة التحليل النفساني الروحاني، ويستعرض تقنيات وطرائق علاجية تضمنها النص الصوفي، ومناقشة إمكانية تحيينها، كتقنية التعامل مع الأحلام، وجوهر الاختلاف بينها وبين تقنيات التحليل النفسي الفرويدي. ويتطرق الفصل أيضًا إلى فلسفة الصمت باعتباره السند العلاجي والإبداعي في العلاج الصوفي، وكيفية مساعدته في التغلب على العادات السيئة. ويتطرق أيضًا إلى تصالُح البيولوجي والنفسي، المرئي واللامرئي، وإعادة اكتشاف النظام الرمزي الصوفي، والتربية الروحانية الصوفية وأنها قد تسدّ فراغًا تعليميًّا بشرح انتقالهم من الرغبة إلى المحبة، وتحديدهم أساليب علاج الخواطر والأفكار السلبية.