
تستمر فعاليات معرض بيروت العربي الدولي للكتاب في دورته الـ66 وسط زحمة ملفتة وتنوع في الزوار، إلى جانب التنوع في البرنامج الثقافي المتميز الذي يرافق المعرض،حيث توزعت العناوين اليوم بين زمن الطوفان ومئوية سليمان البستاني أحد أبرز رواد عصر النهضة العربية و الغواص أبو حامد الغزالي …والحصن الأخير … والتحديات المعاصرة في أدب الأطفال… والعصر الرقمي ومستقبل القيادة ..وفلسفة التواصل ..وتحديات الذكاء الاصطناعي، إضافة إلى عناوين أخرى وحفلات تواقيع الكتب وزيارات طلاب الجامعات والمعاهد والمدارس الذين وصل عددهم اليوم إلى حوالي 1300 طالب من 22 مدرسة ومعهد وجامعة من مناطق مختلفة.
سليمان البستاني… أحد أبرز رواد عصر النهضة
نظّم النادي الثقافي العربي ندوة تكريمية بعنوان “مئوية سليمان البستاني”، لمناسبة مرور مئة عام على رحيل الأديب والمفكر والمترجم النهضوي سليمان البستاني، أحد أبرز رواد عصر النهضة في العالم العربي، وذلك في قاعة “سي سايد أرينا” ضمن فعاليات معرض بيروت العربي الدولي للكتاب الـ66.
أدار الندوة الكاتب سليمان بختي، وشارك فيها كل من الكاتب سلمان زين الدين، الكاتب والأكاديمي ربيعة أبي فاضل، والصحافي والكاتب حبيب يونس، في حضور رئيسة النادي الثقافي العربي السيدة سلوى السنيورة بعاصيري ، إلى جانب وجوه ثقافية وتربوية وصحافية.
بختي: المثقف الشامل المتعدّد الأبعاد
افتتح بختي الندوة بكلمة سلط فيها الضوء على تعدّد اهتمامات البستاني، بين الترجمة والأدب والسياسة واللغة، واصفًا إياه بـ”المثقف المتكامل” الذي لم يعرف الكسل، وكان يُحسن التنظيم والتفكير والتأليف، وقدّم مشروعًا حضاريًا متماسكًا.و أشار إلى دعوة البستاني لتوحيد التعليم الرسمي وإلغاء التمييز بين الذكور والإناث، فضلًا عن موقفه مناهضًا للتعصّب والطائفية.
كما تطرّق بختي إلى مجلة البستاني “المعرض” التي أُقفلت بسبب تضاربها مع السلطات العثمانية، لافتًا إلى انتقاله لاحقًا من ميدان الثقافة إلى الشأن العام، حيث تولّى منصب وزير الزراعة في إسطنبول، قبل أن يستقر في الولايات المتحدة الأميركية ويتوفى هناك عام 1925.
أبي فاضل: “نقل الإلياذة إلى العربية… إنجاز حضاري”
من جانبه، قدّم الأكاديمي والكاتب ربيعة أبي فاضل قراءة أدبية متعمّقة في إنجاز البستاني الأهم، ألا وهو ترجمته الكاملة للإلياذة إلى العربية شعرًا، وهو أول من فعل ذلك في تاريخ الأدب العربي.
وقال أبي فاضل إنّ العرب لم يعرفوا الملاحم كما عرفها اليونان، مستندًا إلى رأي ابن النديم، وأنّ محاولة البستاني جاءت ضمن وعي نهضوي شامل، ورؤية حضارية لبناء توازن ثقافي مع الغرب. وأوضح أن البستاني أمضى نحو 16 عامًا يعمل على الترجمة، مستعينًا بيسوعيين ومتقنين لليونانية القديمة، ليُخرج عملًا بلغ اثنتي عشرة لغة في ملاحقه وشرح حواشيه.
وأضاف: “البستاني قارَنَ بين الجاهلية العربية واليونانية، وأثبت أنّ العرب كانوا قادرين على البطولات الشعرية لو أتيحت لهم أدوات الترجمة والمعرفة”، مؤكدًا أن ترجمته لم تكن نقلًا آليًا بل تعريبًا أدبيًا يدمج بين الدقة العلمية والجمال اللغوي.
زين الدين: “البستاني نَسَج من الأدب سياسة… ومن السياسة إصلاحًا”
أما الكاتب سلمان زين الدين فجمع في مداخلته بين أدب البستاني وفكره السياسي. فرأى أن ترجمة الإلياذة لم تكن مجرّد تمرين لغوي بل مشروع ثقافي متكامل، وشرح كيف اختار البستاني الترجمة الشعرية لا النثرية، ما جعله يبتكر أساليب جديدة، ويعيد تشكيل المعنى داخل بنيات عربية تقليدية.
كما توقّف عند مقدمة البستاني الشهيرة للعمل، حيث أهداه إلى الشعراء العرب، مشيدًا بجمال الأسلوب وثراء الفكرة. ولفت إلى أن البستاني لم يكتف بالترجمة، بل كتب في الفلسفة والاجتماع والسياسة، ومن أبرز أعماله السياسية كتاب “الدولة العثمانية” الذي تضمّن مقترحات إصلاحية جريئة، منها حرية التعليم وحرية المعتقد وفصل السلطات.وأضاف زين الدين: أن البستاني نادى بحقوق الأقليات وبنظام لا مركزي، وكان صاحب فكر تقدمي يُعدّ من الآباء المؤسسين للنهضة الحديثة.
يونس: “هل يُترجم الشعر؟ ”
اختُتمت الندوة بكلمة معبّرة من الصحافي والكاتب حبيب يونس الذي وجّه تحية وجدانية وعقلانية إلى روح سليمان البستاني، داعيًا إلى تحويل فكر النهضويين من مناسبات أرشيفية إلى منهجٍ حاضر في الحياة الثقافية والسياسية.
وسأل يونس بأسلوب تأمّلي: “هل يُترجم الشعر؟” مستعرضًا رأي الجاحظ بأن موسيقى الشعر تضيع في الترجمة، وناقش كيف تجاوز البستاني هذا التحدي بأن جعل من الترجمة الشعرية ضربًا من الإبداع الجديد. واستعرض يونس مناهج الترجمة الثلاثة التي عرفها العرب منذ حنين بن إسحاق: الحرفية، الحرة، والمعنوية، وأكد أن البستاني لجأ إلى المنهج الثالث، أي الترجمة المفهومية ذات الروح الأصيلة.
وتوقف عند مهارة البستاني في التصرّف الإيقاعي، إذ اختار عشرة أوزان شعرية من بين ستة عشر وزنًا عربيًا، وركّبها بما يناسب المواقف المختلفة في ملحمة هوميروس، فكان يحاكي الصوت والنبض والدراما في كل موقف. وأضاف أن البستاني لم يكن فقط ناقلًا بل مُبدعًا، لم يُفرض عليه نصٌ بل اختاره بشغف، فدرسه وتملّكه قبل أن يصوغه باللغة العربية بأسلوبٍ رفيع.
وختم يونس قائلًا:”سليمان البستاني لم يكن ترفًا أدبيًا في عصر النهضة، بل هو نموذج من نماذج التقدّم العربي الذي نحتاج اليوم أن نعيد إحياءه، لا في الكلام، بل في الفعل، لكي لا تبقى النهضة ملفًا مغلقًا في ذاكرة القرن العشرين”.
الغواص أبو حامد الغزالي
نظم النادي الثقافي العربي بالتعاون مع كرسي الشيخ زايد ندوة أدبية مميزة تحت عنوان “الغواص أبو حامد الغزالي”، استضافت الكاتبة والروائية المصرية ريم بسيوني، وأدارتها الباحثة هالة الخطيب وحضرها ممثل كرسي الشيخ زايد الدكتور بلال أرفه لي، ورئيسة الندي الثقافي العربي سلوى السنيورة بعاصيري واساتذة من الجامعة الاميركية في بيروت وعمداء سابقين وطلاب .
استهلت الباحثة الخطيب الندوة بتقديم الروائية ريم بسيوني، مشيدةً بمنجزها الأدبي الغني، وبتنوع أعمالها التي نالت جوائز عدّة، مشيرة إلى أن روايتها الجديدة “الغواص” تستلهم سيرة الإمام والفيلسوف الصوفي أبو حامد الغزالي، بأسلوب روائي شيّق يُعيد رسم معالم رحلته الروحية والفكرية، ويُبرز الأبعاد الشخصية والإنسانية في حياة هذا المفكر الكبير، بلغة شاعرية تنبض بالأدب وروح التأمل.
وعبّرت بسيوني عن سعادتها بالمشاركة في معرض بيروت للكتاب، قائلة إنها جاءت من الإسكندرية خصيصًا لهذا اللقاء، لما لبيروت من مكانة ثقافية في قلبها. ثم تحدّثت عن الدوافع التي جعلتها تكتب رواية “الغواص”، موضحةً أن علاقتها بأبو حامد الغزالي بدأت منذ كانت طالبة في المرحلة الثانوية، حيث تأثرت بأفكاره، وقرأت كتبه بإعجاب كبير، ما جعلها تغوص في كتاباته لاحقًا، مدفوعة باهتمام خاص بالتاريخ الإسلامي
وأضافت: “أبو حامد الغزالي موجود في روايتي، واهتمامي به كان كإنسان قبل أن يكون شيخًا صوفيًا أو مفكرًا. ركزتُ في الرواية على الملامح الصوفية في شخصيته، خصوصًا أن معظم المصريين يعرفونه كفيلسوف، بينما يُغفل كثيرون جانبه الصوفي، باستثناء أهل الاختصاص”.
وأوضحت بسيوني أن منظور الغزالي للحب كان أساسيًا في الرواية، مشيرة إلى أن قراءتها لكتب التصوف فتحت لها آفاقًا أدبية وفكرية أوسع، وقالت: “كلما تعمّقت أكثر في فكره، شعرت بسعادة غامرة، لأن التصوف منحني بعدًا جديدًا في التعبير الأدبي”.
وتناولت الصعوبات التي واجهتها أثناء كتابة الرواية، خاصة في وصف تجربة الشك التي خاضها الغزالي، مؤكدة أن الشك كان محورًا أساسيًا لديه، عبّر عنه في كتب موجهة للراسخين في العلم، وأنه اعترف حينها بعجز العقل البشري أمام هذه التجربة الوجودية. وتابعت: “لغة المتصوفين لغة خاصة جدًا، والتعبير عن شعورهم أمر شديد الصعوبة، وقد واجهت تحديات جمّة أثناء صياغة هذا الجزء، ولكن حبي للبحث ساعدني كثيرًا”.
وقالت إنها شعرت بفراغ شديد بعد الانتهاء من الرواية، مشيرة إلى أن تجربة الكتابة عنها كانت عميقة ومليئة بالتفكير والتأمل. كما تطرقت إلى تجاربها الأخرى، منها ما تناولت فيه سياسة المماليك، مؤكدة أهمية دور المعلّم ومسؤوليته الأخلاقية في بناء الوعي.
تخللت الجلسة قراءات مقتطفة من الرواية، استُعرضت خلالها بعض المقاطع التي تُجسد عمق التجربة الروائية، تلتها متابعة من بسيوني حول “مفهوم المعاني”، حيث انتقدت التركيز الزائد على الشكل في الكتابات المعاصرة على حساب الجوهر، موضحة أن الغزالي كان يستخدم كلمات دالة تحتاج إلى تأمل عميق في معانيها، وهو ما جعل البعض يعجز عن فهمه في بعض المحطات.
وتحدثت الكاتبة عن صورة المرأة في حياة الغزالي، مشيرة إلى أنه واجه اتهامات بكتابات ضد المرأة وتعرض لهجوم في مصر، لكنها ترى أن الواقع يعكس غير ذلك، إذ “كان لديه حساسية شديدة تجاه مشاعر المرأة، وكان يهتم بعائلته ويوصي الرجال بحسن معاملة النساء”، بحسب تعبيرها. وأضافت: “كل هذه التفاصيل ساعدتني في تشكيل شخصية الغزالي في الرواية، كما تخيلتها وقرأتها”.
كما أشارت إلى صعوبة تقديم الغزالي كشخصية علمية معقدة، نظراً لاعتماده على الأسلوب الفلسفي. وقالت: “من الإنصاف قراءة أكبر قدر من أعماله قبل الحكم عليه، وهذا ما فعلته حتى استطعت اكتشاف شخصيته الحقيقية”.
وتحدثت كذلك عن مرحلة مفصلية في حياة الغزالي وهي الهجرة والتأمل، مؤكدة أنه تعرض لضغوط وأعداء، واكتشفت ملامح معاناته من خلال بعض التعبيرات المؤثرة في كتاباته، وقالت: “تأثرت بجُمل كثيرة كتبها، خاصة تلك التي عبّر فيها عن حب الناس، وهذه الجمل هي ما جعلني أتعلق بشخصيته أكثر”.
وأضافت بسيوني أنها استخلصت دروسًا أخلاقية من فكر الغزالي، كان أبرزها تركيزه على مفهوم الأخلاق وصفاء القلب، وقالت: “أصعب ما في الرواية كان كتابة المواقف الإنسانية، سواء مع زوجته أو ابنته، لأن التعبير عن الغزالي الإنسان كان بالنسبة لي أهم من التعبير عن الغزالي العالم”.
وأشارت إلى أن الغزالي كان يذكر موضوع الحسد كثيرًا في كتاباته، وكان هناك تحامل عليه في بعض الفترات، ما جعلها تركّز على هذه التعبيرات المتكررة. وختمت بالقول: “الرسالة التي أردت إيصالها للقارئ هي: الحب، الأنس، والتقرب من الله. من أجمل ما كتبه الغزالي كانت النصوص التي تحدث فيها عن هذه القيم الروحية العميقة”.
الحصن الأخير …الفكر والفن كملاذ في مواجهة الخيبة
نظّم النادي الثقافي العربي ندوة فكرية بعنوان “لحصن الأخير”، تناولت دور الفكر والفن كملاذ إنساني وأخلاقي في مواجهة خيبات الواقع العربي وانهياراته المتتالية.
حضر الندوة وزير الثقافة السابق د. محمد داوود، رئيسة مجلس الخدمة المدنية نسرين مشموشي، مستشار وزير الثقافة القطرية ابراهيم السيد، امين عام اتحاد الناشرين العرب محمد رشاد،مدير عام الاتصالات المهندس باسل الايوبي، مدير عام المهجرين المهندس أحمد محمود، مدير عام الهيئة الوطنية لسلامة الغذاء، مدير عام صندوق الوطني للمختارين جلال كبريت، مدير عام الاسواق الاستهلاكية المهندس زياد شيا، مدير المراسم في وزارة الخارجية السفير اسامة خشاب، السفير علي ضاهر، المديرة العامة لوزارة الاقتصاد عليا عباس.
وقد جاءت الندوة استكمالًا لنقاش فلسفي أطلقه المدير العام لوزارة الثقافة د علي الصمد حول دور الثقافة في لبنان والكتابة لتُختتم بمداخلة موسعة للناقد والكاتب إبراهيم العريس بعنوان “الحصن الأخير”، والتي شكّلت ذروة فكرية للقاء.والقى الضوء خلالها على دور الثقافة في العالم العربي.
الثقافة الملاذ الأخير للبنان
وقال الصمد :”حين تم اختيار “الثقافة الحصن الأخير” عنواناً لندوتنا هذه، كان هاجسنا أن ندق ناقوس الخطر ونلفت إلى أنه بالفن وبالفكر فقط يمكن للبنانيين وللشعوب العربية، الخروج من الواقع الراهن إلى آفاقٍ أكثر إشراقاً ورحابةً.لذا، سأقوم بتسليط الضوء على أهمية الدور الثقافي الذي لعبه لبنان، وعلى خصائصه الثقافية، وسأتوقف بالتحديد عند ضرورة صياغة وظيفة ثقافية جديدة تواكب تحديات العصر بدافع تحقيق غدٍ أفضل.
وعلى قاعدة كامل جميل مروة مؤسس جريدة “الحياة” الذي اختارعنواناً ثابتاً لمقالته الافتتاحية “قل كلمتك وامش”، اخترت عنواناً لكلمتي هذه: “الثقافة الملاذ الأخير للبنان”.
وأنا حين أتحدث عن الثقافة في لبنان، وعن دوره الثقافي، فليس من باب التقوقع ولا بهدف اقامة جدران وحصون بين الثقافات، بل من باب مد جسور الانفتاح على الثقافة العربية انسجاماً مع مقولة مارون عبود بأن “الثقافة في لبنان هي رافد من روافد نهر الثقافة العربية”.وتابع:”الثقافة وحدَها هي جوهر كينونة لبنان وعلّة وجوده، ولولا الدور الثقافي الذي لعبهُ اللبنانيون، ما كان للبنان أن يستمر. وأكثر ما تجلَّى هذا الدور خلال فترة النزاعات والاضطرابات التي شهدها لبنان ومحيطه العربي،بدايةً تجلّت ريادة اللبنانيين من أدباء ورجال فكر وصحافة خلال “النهضة العربية” نهاية القرن التاسع عشر، والتي تسنَّى لمصر أن تكون حاضنة لها، فكان أن استقطبَت الروّاد اللبنانيين، الباحثين عن مكان للإبداع، لم يكن متوفراً في جبل لبنان ومُدُنِه وساحلِه في ظلّ سلطنة عثمانية آخذة في الانهيار.وبالتوازي برَزَ دور المفكرين اللبنانيين المنضوين في الرابطة القلمية والتي ضمتهم مع أقرانهم من المفكرين السوريين الذين اضطرّوا جميعاً للانتقال إلى الولايات المتحدة الأمريكية والإقامة فيها.
ومنذ ذلك الحين، ظلَّ اللبنانيون في هروبٍ مستمر، سواء داخل الجغرافيا اللبنانية أو خارجَها، بحثاً عن مكانٍ يوفّرُ لهم ظروفٍ أفضل للابداع الثقافي.
هذا الهروب الذي شكَّله جوهر رواية ربيع جابر الثلاثية بعنوان: “بيروت مدينة العالم”، ما انفكَّ يلاحقُ اللبنانيين ويدفعَهم نحو الهجرة، ثم العودة، ثم الهجرة، ثم العودة، ثم النزوح، ثم الاستقرار، مسكونين بهاجسٍ وحيد وهو البحث عن الحرية.والحرية بأشكالها المتعدّدة، أي حرية المعتقد وحرية التعبير وحرية الإبداع،بقيَت منشودة الأدباء والمفكرين اللبنانيين، وشكلت فيما بعد، أي عند إعلان استقلال البلاد، ركيزة أساسية من ركائز نظامه السياسي، حتى أن لبنان، غدَا ولتاريخه، واحة الحرية الوحيدة في هذا الشرق.
وكان للحرية أن تساهم مساهمة أساسية في تشكيل الدور الثقافي للبنان، الذي يمتاز بالتنوّع والاختلاف أولاً ، وبالقدرة على النقد وعلى التجدد ثانياً، وباحتضانه الثقافة العربية والغربية والانفتاح على العالم، أخيراً.
وأضاف:”هذه العناصر مجتمعة شكلت وما تزال مميزات الهوية الثقافية اللبنانية، والتي هي بالتأكيد غير منفصلة عن الهوية الثقافية العربية، بل تتفاعل وتتجدَّد معها ومع الثقافات الأخرى. وهذا تحديداً ما أشار إليه الرئيس السنغالي والشاعر ليوبولد سنغورخلال زيارته لبنان في ستينيات القرن الماضي من على منبر الندوة اللبنانية،حيث قال “بأن اللبنانيين هم الشعب الأكثر عروبة وهم في الوقتِ نفسه الشعب الأكثر عالمية”، كما أنه كان لهم أسهامات كبيرة في تكوين الثقافة المتوسطية”.
وأردف:لقد ساهمت الأزمات والتوترات والنزاعات في تشكيل هوية لبنان الثقافيةوقد تجلّى ذلك في فترة الستينيات من القرن الماضي، حيث كان للبنان أن تأثر بتداعيات الصراع العربي الإسرائيلي، لا سيما بعد هزيمة عام 1967.فقد نتج عن ذلك أن انتقلت قيادات العمل الفدائي الفلسطيني إلى لبنان، الذي أضحى بفعل خصائصه الثقافية، من حرية وتعددية وانفتاح، منبراً للقضية الفلسطينية وملاذاً لقادة فكر ورأي توزعوا على تيارين متناقضين: دعاة اللبنانية ودعاة العروبة،وقد أدى التنافس الفكري والثقافي بين أبناء التيارين إلى نهضة ثقافية حقيقية، ولكنها لم تستطع أن تمنع البلاد من الانزلاق إلى سلسلة من الحروب استمرَّت زُهاء خمسة عشر عاماً.ولعلَّ السبب في ذلك يعود في المقام الأول إلى عدم الاعتراف بالآخر، أي عدم الاعتراف بالتنوع الثقافي داخل الوحدة، إذ بقي كل تيار يقرأ في كتابه من دون أن يتجرّأ أن يقرأ في كتاب الآخرين. وهذه إحدى المثالب الرئيسية التي أدت إلى تشظي أطياف المجتمع اللبناني وتفككه مذاهبَ وطوائفَ ومجموعات متناحرة”.
وقال:”في فترة ما بعد الحرب، جهِد لبنان لكي يعود ويلعب دوره الثقافي السابق في المنطقة كمطبعة العرب، ومسرح العرب وسينما العرب ومركز فكر العالم العربي.وقد نجح هذا الأمر حيناً، وكان ثمة إخفاقات عديدة أحياناً، تعود أسبابها لوجود قوى أمرٍ واقع حدَّت من مساحة الحرية وخنقت حركة الابداع فيه. ترافق ذلك مع نزاعات إقليمية ومحلية لم تهدأ طيلة عقدين ونيَف من الزمن ( 11 أيلول 2000، حرب 2006، و الربيع العربي، ومن ثم 7 اوكتوبر والحرب الاسرائيلية على لبنان).كان لكل هذه الأحداث تداعيات كبيرة على دور لبنان الثقافي والريادي في المنطقة والعالم، كما أنها أدّت إلى زعزعة موقع لبنان على صعيد الصناعات الثقافية والابداعية”.
وتابع:”توازياً كانت قد بدأت دولاً عربية عديدة تعتمد سياسات أكثر انفتاحاً على العالموعلى الثقافات الأخرى وتتنهج نهجاً جديداً يعتمد بشكلٍ كبير على الاستثمار في القطاع الثقافي وفي البنية التحتية الثقافية مما شكّل تحدٍّ جديّ وتهديد خطير لدور لبنان.على الرغم من كل ما تقدم، ولغاية عام 2019، ظلَت الصناعات الثقافية والإبداعية تتنامى وتُعزز موقعها لناحية مساهمتها في الناتج المحلي، كما لناحية العاملين فيها، وقد أشارت عدة دراسات، منها دراسة لمعهد باسل فليحان بأن 20% ممن هم في سن العمل، يعملون في قطاع الصناعات الثقافية والابداعية. وأمام التطورات الهائلة التي شهدها لبنان خلال العقدين الأخيرين، وعلى ضوء ما عرفته المنطقة من تغييرات وتحولات جراء أحداث 7 أكتوبر 2024، أمور كثيرة تغيّرت ومفاهيم عديدة تبدّلت، مما يضع لبنان أمام تحدٍّ حقيقي لناحية وظيفته ودوره الثقافي”.
وختم الصمد:”لبنان اليوم كما بالأمس البعيد والأقرب، يجب أن يبقى واحة حرية في هذا الشرق، وهو تجسيدٌ واقعي لتفاعل الحضارات وجسر وصل وتلاقح إبداعي، بين الفكر المشرقي العربي وحضارات ما بين ضفتي المتوسط والعالم المفتوح.من هنا الحاجة لتعزيزالبنى التحتية والفوقية للثقافة من مؤسسات تربوية وجامعية ومراكز أبحاث ومسارح ودور نشر، كما والعمل على استقطاب الشخصيات الفكرية والادبية والخبرات في المجال الثقافي.ولأن الثقافة هي الملاذ الأخير للبنان،فعلى اللبنانيين أن يقرروا ماذا يريدون أن يقولوا للعالم من خلال الثقافة، ومن خلال اسهامهم تحديدا ً في مجالات الفنون والآداب والذكاء الاصطناعي وغيرها”.
من جهته،انطلق العريس من هذه الرؤية ليؤكد أن “الوعي الناتج عن الإبداع هو الثروة الوحيدة التي لا يمكن للأنظمة أن تنتزعها”. وأوضح أن ماركوزه، بعد خيبة ثورات 1968، لم يفقد إيمانه بالتغيير، بل أعاد تموضعه في الفن والفكر كوسيلتين وحيدتين لإحداث ثورة حقيقية، مستقلة عن السياسة والسلطة. وأضاف: “ليست الأحزاب، ولا الطبقات الثورية، بل الوعي الخلاق وحده هو الحصن الأخير في وجه الانحدار”.
وتابع العريس في تشخيصه للواقع العربي: “نعيش في خيبات مستمرة، من النكبة إلى الربيع العربي الذي سُرق، وبينهما نكبات متعددة، وهزائم ذهنية وثقافية أعمق من تلك العسكرية”. واعتبر أن الأمل لا يزال قائمًا، لكن بشرط واحد: الوعي الذي يولّده الفكر والإبداع. وحذّر من غياب النقد البنّاء، واستشهد بالنهضتين العربيتين الأولى والثانية، اللتين بقيتا حبيستين للنخب، ولم تتحوّلا إلى مشروع جماعي، بسبب تغييب العقل النقدي من المدارس والجامعات.
وتحدث عن ودور الإبداع الفنّيّ والفكريّ فيه باعتباره يُمثِّل طريقاً أكيداً نحو بناء مستقبل عربيّ أقلّ بلادةً ممّا عرفنا حتّى الآن، إن لم يكن أكثر إبداعاً وجمالاً. فأنا في نهاية الأمر أرى أنّ طريق الوعي الإبداعيّ قد يكون في إمكانها أن تقودنا نحن العرب، أخيراً للخروج من الماضي ودخول التاريخ الذي يتضمّن دخول زمن العالم وقبول الآخر والتفاعل مع العقل المنطقيّ، بل حتى التجريببي كي استعير من الراحل الكبير جورج طرابيشي، كبديل للغوص في العقل الميتيّ (الاسطوري).
وتابع:انا على يقين هنا من أن الخطوة الأولى على طريق هذا الوعي الذي اراه حصننا الأخير تكمن في التنبه إلى غائب أساسي في حياتنا العقلية. واتحدث تحديدا عن غياب النقد من حياتنا الفكريّة، معتبراً أنّه انحصر بشكل موجات داخل كتب وأفكار من الصعب القول إنّها فعلت ما تقدر حقا على فعله في تاريخنا الراهن، ومنها خاصة موجتان كادتا أن تفعلا حقّاً في تاريخنا الحديث لولا أنّهما كانتا مجرّد ردّة فعل، لا عملاً مبادراً: النهضة الأولى التي انطلقت من ردّة الفعل على حملة نابوليون لتتواصل مع بدء انهيار دولة الاحتلال العثماني ودخول الإنكليز مصر أواخر القرن التاسع عشر وهي تلك التي قادها الأفغاني وعبده لكنّها سرعان ما تجاوزتهما. والنهضة الثانية التي أعقبت هزيمة حزيران عام1967 وتمثّلت في كتابات وبيانات انتقدت الهزيمة لكونها أتت نتيجة أوضاعنا وكوارثنا الخاصّة، وليس مجرّد مؤامرة خارجيّة.
وتساءل:لم لم تفعل النهضتان حقاً في تاريخنا الحديث؟ وجوابي الوحيد هو: لأنّهما ظلّتا نخبويتّين ويتيمتَين على موائد اللِّئام. لم تجدا من يُحوِّلهما إلى المدارس والجامعات ليس كنصوص إنّما كفعل وكممارسة. وُضعتا في المتاحف وبُجِّلتا. أمّا الشعوب فتركناها لقمة سائغة في أفواه قوى الظلام وأصحاب الأفكار المضبوطة على إيقاع قوميّات وإيديولوجيّات وأفكار مصطنعة رُكّبت في مطابخ الفاشيّات القوميّة الأوروبيّة ثمّ في مطابخ الفاشيّات الدينيّة.
وأضاف:لقد توقّفتُ قبل فترة عند عبارة قالها مسؤول سياسيّ شاب بدأ يفاجئ العالم بثورة جديدة من نوعها يقوم بها، قال: “حين يهدأ الشرق الأوسط سنكون مثل أوروبّا”. حسناً مثل هذه العبارة قد تمرّ مرور الكرام في ظروف أخرى، لكنّها هنا تتّخذ دلالة في منتهى العمق والأهميّة. فأوروبّا التي يريد المسؤول الشابّ أن نتشبّه بها، ليست قوّة اقتصاديّة ولا هي بالقوّة العسكريّة وليست حتّى ذات بال في الجيو-استراتيجيّات ولا طبعاً في المجال السياسيّ العالميّ. لكنّها بالتأكيد منهل للقيم الحقيقيّة على الصعيد الإنسانيّ. ذات قوّة أخلاقيّة وباع إبداعيّ لا يدنو منهما أيّ طرف آخر في عالمنا اليوم. أوروبّا هي اليوم حيّز يقوم على الإبداع ويرتبط بتاريخ الفكر والفنّ، قوّتها في سينماها ومسارحها وآدابها ومدارسها الفكرية، ومتاحفها وحفاظها على ما هو ناصع في تاريخها.
أوروبّا التي احترمت الدّين إلى درجة أنّها فصلته عن ألاعيب السياسة وأعادته الى أبعاده الرّوحيّة الجميلة، مكرسة له يوما واحدا في الأسبوع ودورا أخلاقيا في المجتمع لا أكثر ولا أقل، هي التي قامت أساساً وإلى حدٍّ كبير، على الإبداع والفكر وثوراتها لم تكن لتنجح لا في العام 1789 ولا في العام 1848 ولا خصوصاً في العام 1968، – ولا اتحدث هنا عن النجاح الفوري بل عن نجاح المدى الطويل مستعيرا هذا التعبير هذه المرة من المؤرخ فرنان بروديل -، لولا الفكر والإبداع اللّذين أطلقاها. ما من نهضة حقيقيّة لأيّ شعب، وما من انطلاقة اجتماعيّة تقي الشعوب من الفوضى الدامية، وما من وعي يحوّل الأجيال الطالعة إلى قوى فاعلة في المجتمع، من دون ذلك الوعي الذي يخلقه الفكر والفنّ. الفكر والفن اللذان كحصن أخير يمكننا اللجوء اليه، يرسمان الآفاق المفتوحة الحقيقية بين مجتمعاتنا العربية التي نعرف انها تقرأ نفس الكتب وتشاهد نفس الافلام وتعيش نفس الاحلام النهضوية… ومن هنا ما اراه دائما من أن الفكر والفن كسبيلين للوعي هما وحدتنا العربية.
وشهدت الندوة حضورًا فكريًا وثقافيًا نوعيًا، وتفاعلًا مع المداخلات التي أعادت الاعتبار لقيمة الكلمة، في وقت تكثر فيه الصرخات وتقلّ المعاني
زمن الطوفان
نظّم دار النهضة العربية ندوة ثقافية بعنوان “زمن الطوفان… لكن أين نوح؟”، بحضور حشد من الأدباء والمثقفين، من بينهم: الشاعر عمر شبلي، الدكتور هاني سليمان، الدكتور شوقي أبو لطيف، والأستاذ يقظان التقي. كما ألقى الأستاذ رفعت فارس كلمة البروفيسور غسان سكاف الذي تعذّر حضوره.
افتُتحت الندوة بالنشيد الوطني اللبناني، ثم قدّم مدير الندوة الأستاذ يقظان التقي مداخلة افتتاحية قال فيها: “بعض الحرية التي نمارسها اليوم هي أن نقول لا… لا لجريمة الاحتلال الإسرائيلي”.
وأشار التقي إلى أن الشاعر عمر شبلي تميز بكلمة نابعة من التزامه العروبي والقومي، حيث عبّر عن تمرده ورفضه للواقع عبر الكتابة لا الانك