
يعقب مسؤول أميركي على تسريح خمسة ألوية قتالية وسحبها من ميادين العمليات الحربية في غزة، بأن إسرائيل على ما يبدو تستجيب إلى النصيحة الأميركية، وتنتقل إلى مرحلة تالية من الحرب، بعمليات أكثر تحديداً وبكثافة نيرانية أخف. المسؤول الأميركي الذي لا تسميه وسائل الإعلام الغربية، يقتصر تصريحه على الترجيح، من دون أي تأكيد أو جزم.
إسرائيل، من ناحيتها، تعزو القرار إلى دوافع اقتصادية، تتعلق بعبء الاحتياط على سوق العمل. بحسب المصادر الإسرائيلية، استدعاء قوات احتياط جديدة وإعادة انتشار، هي إجراءات عملياتية واردة، لا تعني بالضرورة تغيرات جذرية في إدارة الحرب أو مراحلها. بإلحاح، تسعى تل أبيب للتأكيد على أن قراراتها بشأن الحرب هي قرارات تقررها حكومتها، أما النصائح الأميركية فيتم الإنصات إليها باهتمام، لكن مع الاحتفاظ بحق التجاهل.
بحسب التقارير الإعلامية الغربية المتداولة في الأسابيع الأخيرة من العام الماضي، حددت إدارة الرئيس بايدن الشهر الجاري، لنهاية العمليات الكثيفة والانتقال إلى مرحلة جديدة من الحرب، وإن ظل الخلاف على الموعد. ففيما فضل الأميركيون مطلع الشهر أو منتصفه، دفعت تل أبيب نحو نهايته. أما الخلاف الأكبر -وهو ما زال قائماً- فحول ما يعنيه هذا الانتقال من مرحلة إلى أخرى بشكل عملي على الأرض، بالإضافة إلى الترتيبات السياسية المترتبة عليه والمرافقة له.
قرار البنتاغون سحب حاملة الطائرات “جيرالد فورد” من البحر المتوسط، وإعادتها إلى مينائها الرئيسي في الولايات متحدة، قد يكون علامة أخرى على تبدل في مجريات الحرب. تأويل الخطوة الأميركية يجب أن يُقرأ في سياق دلالتها الرمزية. في المقام الأول، كان تحريك الحاملة العملاقة إلى شرق المتوسط في إطار المساهمة في “الردع الإقليمي”، عملاً استعراضياً، معني بتأكيد الجهوزية الأميركية الكاملة لدعم إسرائيل في مواجهة أي توسع للقتال بعد هجوم السابع من أكتوبر. الامتناع الأميركي عن التوضيح، فتح الباب على تفسيرات عديدة وعكسها. يمكن الافتراض بأن انسحاب “جيرالد فورد” بيان على تململ أميركي من سياسات الحرب الإسرائيلية، أو هي علامة تحذير لتل أبيب تهدف إلى حثها على الانصياع للجدول الزمني للقتال بمواقيته الأميركية. على النقيض، قد تكون الخطوة الأميركية إشارة إلى زوال خطر توسع الحرب، بعد ما يبدو ردعاً إسرائيلياً لحزب الله في الشمال، وتحقيق تقدم نسبي في غزة.
والحال أن غياب الوضوح في مجريات الحرب في غزة، قد يرجع إلى الخلافات الإسرائيلية الأميركية، وإلى الخلافات داخل إسرائيل نفسها وداخل إدارة بايدن، وبالأولى يمكن عزوها إلى المسافة الشاسعة -غير القابلة للتجسير- بين الأهداف المعلنة والمبالغ فيها للحرب الإسرائيلية، وبين ما يمكن تحقيقه بالفعل، وإلى عدم وجود تصور واضح لمخطط “اليوم التالي”.
وبغض النظر عن هذا كله، وعن تضارب التكهنات والافتراضات، فإن الواضح هو أن نهاية للحرب ليست قريبة، وأن الانتقال إلى مرحلة جديدة منها لن يعني سوى استبدال المذبحة العشوائية بمذبحة منظمة وتدريجية، وتمديد لمعاناة سكان القطاع وتجويعهم ببطء. التصريحات الإسرائيلية تشير إلى حرب قد تستمر شهوراً، وحتى نهاية العام الجاري، بل وأحياناً تذهب إلى القول باحتلال القطاع أو أجزاء منه والقدرة على اقتحامه بشكل دوري، كما الحال في الضفة الغربية، أي بمعنى تمديد حالة الحرب لتكون الوضع اليومي القائم. أما من حيث اتساع الحرب إقليمياً، فالولايات المتحدة بالفعل تقود تحالفاً يخوض حرباً صغيرة في البحر الأحمر، فيما تتوالى غاراتها في العراق، وتقوم إسرائيل بحرب متعددة الجبهات، باقتحامات في الضفة الغربية، وتبادل للقصف مع حزب الله على حدود لبنان، بالإضافة إلى غارات تكاد تكون يومية على أهداف داخل سوريا.
ليست الحرب الدائمة تلك، وضعية فريدة. ففي ظل النظام أحادي القطب للإمبراطورية المتمركزة حول الولايات المتحدة وحلفائها، يواجه العالم وضعاً منذراً باندلاع العنف في أي مكان أو أي وقت، بحيث لا يمكن التمييز بين حالتي الحرب والسلم.
وفيما يمكننا الادعاء بأن استمرار توتر حالة الحرب الدائمة تلك، يخدم المجمع الصناعي العسكري الأميركي، فإن وجهة نظر أخرى تذهب إلى عجز الإمبراطورية عن ضبط العنف كلياً حول العالم. لكن على الأقل تسعى لتحويله إلى نظام متسق ومستقر، عنوانه الأليَق هو الحرب الدائمة. وهذه الحالة ليست حرباً شاملة، ولا هي الحرب بالمعنى المعجمي للكلمة، بل عمليات بوليسية مستمرة ومتفرقة وقتال غير متكافئ الأطراف، بغرض التأديب والعقاب والضبط ومطاردة المارقين. بمعنى آخر، هي محاولة لتنظيم العنف العالمي، من دون حل لجذوره، بل على النقيض، تأبيدها.
كون إسرائيل واحدة من النقاط الرئيسية لارتكاز الإمبراطورية، فإن نشأتها مهدت لحالة حرب مستمرة على الفلسطينيين وعلى جيرانها جميعاً، وفي المنطقة بالعموم. كان هجوم السابع من أكتوبر واحداً من الانفجارات المتكررة والدورية التي تخرق حالة الحرب الدائمة، بغية تحويلها إلى حرب حقيقية، وذلك لخلخلة نظام العنف الضمني المستقر والدائم، أو على الأقل تغليظ كلفته بحيث لا يمكن تحملها في المدى الطويل. من جهة إسرائيل والولايات المتحدة، ستكون العودة إلى حالة الحرب الدائمة، منخفضة التكاليف، هي الحصاد المثالي للمعارك الدائرة اليوم. أما الخلاف بينهما، إن وُجد، فيدور حول تفاصيل ذلك العنف وحجمه وجداوله الزمنية ومن يديرونه