للمرة الثانية على التوالي يخرج الأرنب من كمّ علي حسن خليل، بالنيابة عن رئيس المجلس النيابي. في الجلسة التشريعية الماضية، قدّم اقتراح قانون معجّل لتشريع الصرف على القاعدة الاثني عشرية، مبشّراً بأن الموازنة لن تقر، وفي جلسة الغد صار معلوماً، على ما أعلن بنفسه، أنه سيقدّم اقتراح قانون معجل مكرّر لزيادة رواتب العاملين في الأسلاك العسكرية والأمنية.

في الاقتراح المفاجئ، ليس واضحاً لماذا حصر الزيادة بالموظفين العسكريين دوناً عن المدنيين. أي أسباب موجبة تلك التي تفترض أن العسكري هو وحده من تضرر من الانهيار الاقتصادي والتضخم، فيما الموظف المدني لا مشكلة لديه؟ لكنّ لمقدّم الاقتراح رأياً آخر. بالرغم من أنه يعتبر أن الزيادة هي حق لكل الناس في المبدأ، إلا أنه يشير إلى وجود العسكريين في الخط الأمامي وفي الطرقات، وهؤلاء يدفعون نسبة كبيرة من رواتبهم بدل تنقل وطعام، ويبيتون لأيام خارج منازلهم، بعكس المدنيين. حسناً، ماذا عن العاملين في القطاع الصحي، المستنفرين في الخط الأمامي لمواجهة جائحة كورونا منذ أكثر من عام، والذين بدأوا بالهجرة بسبب تآكل مداخيلهم؟ أليس تصحيح أجورهم أولوية اجتماعية واقتصادية وأمنية أيضاً؟
في تفاصيل الاقتراح، يدعو خليل إلى «إعطاء العسكريين العاملين من ضباط وعناصر الجيش وقوى الأمن الداخلي وأمن الدولة وشرطة مجلس النواب والضابطة الجمركية العسكرية، دفعة على غلاء المعيشة تساوي مليون ليرة لبنانية شهرباً لمدة ستة أشهر». يشير الاقتراح إلى أن «هذه الدفعة تُحسم من قيمة أي زيادة تطال سلسلة الرتب والرواتب خلال سريان هذا القانون، وإذا كانت قيمة هذه الزيادة أقل من قيمة الدفعة المقررة، فلا يجوز تخفيض الدفعة، أما إذا كنت قيمة الزيادة أكثر منها فيستفيد المعنيّون منها من الفارق فقط.
ربطاً بردود الفعل التي برزت أمس، فإن خليل، ومن خلفه الرئيس نبيه بري، فتح، من حيث يدري أو لا يدري، باباً على فوضى لن يعرف أحد كيف تنتهي. كل القوى، رسمية ومدنية، مجمعة على أهمية تصحيح الأجور، بعد أن انهارت قيمتها. هذا حق لا نقاش فيه. لكن أحداً لم يجرؤ على طرح الموضوع بشكل منفصل عن الحلول الجذرية، على اعتبار أن الدولة بالكاد تغطّي الرواتب الحالية، بسبب الانخفاض الذي طال العائدات أيضاً. وبالتالي، فإن أي نفقات إضافية تحتاج إلى أن تكون ضمن سلة متكاملة من الإصلاحات (التي تربطها غالبية القوى السياسية الممثلة في مجلس النواب بالمتوافق مع الجهات الدولية المعنية)، بما يسمح بتحريك عجلة الاقتصاد وضخ الأموال من الخارج. أضف إلى ذلك أن هذا التوجه يناقض ما تضمنته الموازنة من إجراءات تقشفية لم تشفع في تخفيض العجز.

هل قرّر بري دعم قائد الجيش في مواجهة رئيس الجمهورية؟

بغض النظر عن إقرار الزيادة في جلسة يوم غد من عدمها، يبدو أن على المسؤولين الاستعداد للتعامل مع تصاعد التحركات المطلبية، ومن مختلف القطاعات. رابطة موظفي الإدارة العامة أعلنت الإضراب يوم الجمعة بالتزامن مع انعقاد الجلسة العامة، مطالبة «بمنح جميع الموظفين من دون استثناء دفعة على غلاء المعيشة لا تقلّ عن مليون ليرة لبنانية، ريثما يتم تصحيح الأجور بشكل شامل». كما أشارت إلى أنها ستعلن الاضراب العام المفتوح ابتداءً من الإثنين المقبل، «في ضوء ما سينتج عن جلسة مجلس النواب». كذلك، بدأت هيئة التنسيق النقابية تدرس الخيارات المطروحة.
بحسب مصادر مالية مسؤولة، فإن التقديرات الأوّلية تشير إلى أن الزيادة المقترحة للعسكريين تحتاج إلى نحو 800 مليار ليرة لتغطيتها. وهذا المبلغ لن يكون بالإمكان تأمينه إلا عبر مزيد من طبع العملة، ما سيعني زيادة التضخم إلى مستويات قياسية جديدة، تؤدي إلى تآكل إضافي في رواتب الموظفين غير المشمولين بنعمة علي حسن خليل، والذين يصل عددهم إلى 200 ألف موظف (الأساتذة والموظفون في الوزارات والإدارات العامة والعاملون في البلديات والمؤسسات العامة). وهو تآكل لن يستثني الحاصلين على الزيادة أنفسهم (نحو 120 ألف عسكري). لا ينكر خليل أن الاقتراح سيسبّب تضخماً، لكنه يشير إلى أن هذا التضخم لا يذكر أمام التضخم الذي سبّبته زيادة 22 ألف مليار ليرة إلى الكتلة النقدية. ويوضح أن المبلغ المدفوع محصور بفترة الستة أشهر في حال لم يتم إجراء سلسلة رواتب جديدة، ولا يرتّب أي أعباء مستقبلية، لأنه لا يدخل في صلب الراتب.
أكثر من نائب أبلغوا «الأخبار» تفاجؤهم بتقديم هذا الاقتراح، معتبرين أنه يشكّل إحراجاً كبيراً للمجلس. فالنواب إذا صوّتوا ضد يكونون كمن يعترض على حصول العسكريين على حقوقهم، وإذا صوّتوا مع يظلمون باقي الموظفين ويستسلمون للشعبوية، وهم أدرى الناس بالانهيار المالي والنقدي الذي يشهده البلد. ثم، ما صفة العجلة في الاقتراح المقدّم، وهل هو مستعجل أكثر من سلفة الكهرباء، التي يحذّر وزير الطاقة من أن عدم إقرارها سيؤدي إلى العتمة؟ وأكثر من ذلك يسأل بعض النواب: أليس الرئيس نبيه بري هو من سبق أن أكد وجوب عدم إضافة اعتمادات من دون إيجاد تمويل لها؟ هذا تماماً ما حصل حين أقرّت سلسلة الرتب والرواتب (بصرف النظر عمّا إذا كانت التقديرات قد أتت خاطئة في حينها أم دقيقة)، فكيف يعمد اليوم نائب من كتلته ووزير مالية سابق إلى تقديم اقتراح يكلّف الدولة ألف مليار ليرة من دون تأمين التمويل له، وفي ظل انهيار مالي شامل؟ في هذا السياق يستغرب خليل الضجة التي أثيرت بشأن الاقتراح، مشيراً إلى أنه اقتراح للنقاش، لم يُنسّق مع قيادة الجيش ولا مع الكتل الأخرى.
«رائحة السياسة ليست بعيدة عن هذا الاقتراح»، يقول مصدر متابع. ويسأل: هل قرّر بري دعم جوزيف عون كجزء من معركته المفتوحة مع رئاسة الجمهورية، من خلال إظهاره قادراً على تنفيذ وعوده لعسكرييه؟ وهل «المناورة» التي نفّذها قائد الجيش على الأرض في يوم الغضب، أعطت إشارة إلى أن الجيش جاهز للتمرد على القرار السياسي، ما يحتّم استيعابه؟ الاستيعاب هنا يفترض أن السلطة تتوقع المزيد من الاضطرابات. ولذلك، هي لا تحتمل أن يكون الجيش محايداً في المعركة بينها وبين الشعب، وتريد أن تثق بأنه سيبقى يدها التي تبطش؟