كتبت ليلى دندشي
إنصرف الأخوان عاصي ومنصور الرحباني إلى تطوير فن الموسيقى وفن المسرح العربي في آن إنطلاقا من الروابط الممكن أن تجمع بين المسرح والموسيقى وبين الدراما والغناء، ومن ثم إتجها إلى المزج بين التراث والموسيقى الغربية في اعمال موسيقية متعددة الأصوات وذلك بإستخدام مسارات “هارمونية” وتلوينات أوركسترالية تتفاوت في ملاءمتها لموادها اللحنية المستمدة من الموسيقى العربية، وبتأثير باشكال الموسيقى الغربية والأجنبية كالروسية والألمانية والسلافية.
وقد جرى الإهتمام بشعر الأغنية العربية وذلك بالخروج من الموضوعات الفردية إلى موضوعات جماعية تهم الجماهير وقضاياها وتعالج الواقع السياسي والإجتماعي والحضاري.
فقد أخرج الرحابنة الغناء العربي من الموروث عن الحبيب والحبيبة والهجر والفراق وما إلى ذلك، ووضعوا أغنية جديدة في خدمة المجتمع، فظهرت عندهم أغنيات عن طوائف ومجموعات إجتماعية متعددة:عن الشاويش، عن بائعة البندورة، عن البستاني… وربطوا بذكاء شديد بين منجزات مصر في هذا الحقل، التي جرت على يد سيد درويش ومحمد عبد الوهاب ومنجزات التراث الأخرى، فإلتقت الموشحات الأندلسية وشعر أبي نواس وجبران.
لقد إستطاع الرحابنة أن يستخدموا الإرث العربي بذكاء شديد ومتعة فائقة، فإعتمدوا على مطربين كبار لتأدية ألحانهم ونذكر منهم: وديع الصافي، صباح، نصري شمس الدين، ملحم بركات، وتبقى المطربة فيروز أهم هذه الأسماء وأكثرها حضورا في تجربة الرحابنة.
لقد إلتجأ الرحابنة إلى المسرح لتقديم أعمالهم الموسيقية والغنائية في شكل فني سُمّي “المسرح الغنائي” وكان هذا على إمتداد ما يقارب نصف قرن وما يزيد عن 35 مسرحية، وذلك من أول عمل لهما وهو “الحصاد” سنة 1957، مرورا “بالليل والقنديل” 1963، و”بياع الخواتم” 1964، و”الشخص” 1968، و”جبال الصوان” 1969، و “ناس من ورق” 1970، و”يعيش يعيش” 1971، و “الربيع السابع” 1982…
لقد إعتبرت أعمال الرحابنة اهم تجربة في المسرح الغنائي بعد سيد درويش إلى الآن، ويمكن القول أن المسرح الغنائي الرحباني مرّ بعدة مراحل: المرحلة التأسيسية وهي مرحلة مسرحة المكان، والمرحلة التاريخية، ومرحلة مسرحة الواقع السياسي، وهذا التقسيم إلى مراحل هو حسب تحول مضمون مسرحيات الرحابنة.
وخلال هذه المراحل كانت الأغنية هي العنصر الاساسي للرحابنة الذين إتخذوا المسرح قناة لتقديم أغانيهم وإنجازاتهم الموسيقية، فكان الجانب الغنائي طاغيا على الجانب المسرحي، ولم تكن الأغنية موظفة توظيفا دراميا، وإنما كانت مسقطة على الدراما وقائمة بذاتها، وإنتصار الجانب الغنائي على الجانب المسرحي يمكن تلمسه لحظة مشاهدة أعمال الرحابنة والوقوف على إختياراتهم الواعية واللاواعية فيها، فالأخوان رحباني حاولا الولوج إلى عوالم جديدة في الموسيقى والإيقاعات من خلال الأغاني التي يقدمانها حشرا في الدراما، فتكون إما خارج النص أو خارج المناخ المطلوب، ففي مسرحيتهما “لولو” نجد العديد من الأغاني التي تأتي خارج السياق الدرامي مثل أغنية “من عز النوم بتسرقني” التي تؤديها فيروز وتأتي بعد حواريتها المغناة مع فارس ومع ماسح الأحذية وتبدو فيها كأنها تغني للجمهور أكثر من أن تؤدي اغنية داخل المسرحية.
ولما كان البطل الأول والرئيسي في المسرح الغنائي للرحابنة هو الصوت، وتحديدا صوت المطربة فيروز، فإنه إضطلع بمهمة حمل قضايا الناس والتعبير عن همومهم وإرتقى بها إلى أعلى مستويات التعبير الدرامي.
فقد إنطبعت كل أغاني فيروز المقدمة في أعمال مسرح الرحابنة بالتصويرية الشعرية واللحنية بصوت فيروز، في محاولة إبداعية حققها الأخوان رحباني للإمساك بدواخل الذات على المستوى الصوتي، وفي هذا كله كان صوت فيروز أكثر من الآلة وأكثر إحاطة بالمناخ التعبيري في بعده الدرامي، فكانت أغاني “لملمت ذكرى لقاء الأمس بالهدُب” و “مشوار” و “ياريت” و “إنت وأنا”، أغاني يضعف فيها الإيقاع حتى الحدود الدنيا، بل يختفي لمصلحة الحالة الصوتية الدرامية.
وأدخل الأخوان رحباني المستوى الصوتي واللحني في لعبة جديدة تقوم على المعالجة الصوتية الدرامية التي كانت تعلو وتتصاعد، ومن ثم تتدرج هبوطا تبعا لطبيعة النص الشعري والمادة الموسيقية والصوت نفسه في آن واحد، ومن البديهي القول أن هذا النوع تقدّم مع الأغنية العربية من حيث أنّ الحالة الموسيقية الدرامية أصبحت الأساس والقاعدة وكان لهذا أثره في القبض بصورة أعمق وأدق على الأحاسيس وبالتالي التعبير عنها بالصوت.
وقد مثّلت الدراما الغنائية مع الرحابنة نوعا آخر أو نقيضا فنيا للسائد، فهي أعطت البعد الإجتماعي والثقافي والسياسي مكانته خصوصا في فترة الستينات، فطرحت أشكالا متجاوزة لواقع الإنسان في لبنان والخريطة العربية ورسمت معالم الحلم العربي، وكانت فيروز عبر النص الرحباني الموسيقي الشعري تدعو إلى مجتمع شعري وإلى قيم شعرية شكلت دعامة مهمة في عملية الحراك النهضوي في تلك الفترة.