في سنواتها الأخيرة والطويلة، كانت “شحرورة الوادي” الفنانة صباح، قد أصبحتْ أشبه بالمتقاعدة أو تقلّص عملها الغنائي والمسرحي والسينمائي وتحولتْ نجمة تلفزيونية ترفيهية، خصوصاً تلك البرامج المستنسخة عن نفسها التي يعدّها ويخرجها الراحل سيمون أسمر. تُستقبل صباح في الحلقة الأولى، أو في الحلقات “الضاربة” لتعطي دفعاً للبرامج التي تبحث عن شرعية شعبية وإعلانات. لم تكن المشكلة في تحوّل الفنانة الكبيرة وجهاً تلفزيونياً أو نجمة برامج ترند، قبل انتشار الانترنت، لكن في معظم المقابلات واللقاءات المسائية المسليّة، يعرف المشاهد مغزى استضافة “الشحرورة”، وينسجم مع ابتسامتها وإشراقتها وطيبة قلبها، رغم معرفة بواطن حديثها وعفويتها وتعاملها مع أقسى الأسئلة وأجرئها بابتسامة ساذجة ومرح فائض. وكانت الأسئلة تُركز على جانب معين ومحدّد من حياتها وسيرتها ومسيرتها الطويلة المتشعبة والدرامية و”أسرارها” التي على لسانها. إذ لم تخبأ شيئاً عن جمهورها، الذي في بطنها على رأس لسانها، وتكون الأسئلة في كل مرة عن الحبّ “الذي يُنسي الحب”، وزيجاتها الكثيرة وعلاقتها بأزواجها، من أحبّت أكثر ولماذا طلقتْ، أيضاً جمالها الدائم واشراقتها، كيف حافظت على نضارتها طوال عقود، أيضاً وأيضاً فساتينها ومصمميها. تتكرّر الأسئلة في معظم المقابلات التلفزيونية والصحافية، وتتكرّر الأجوبة مبهرة، مرّة بالناقص ومرّة بالزائد، ولا يكلّ الجمهور عن المتابعة والقيل والقال… قلّما يكون الحديث عن بطولاتها السينمائية وأفلامها وتعاونها مع كبار الملحنين من عبد الوهاب إلى بليغ حمدي والرحبانيين وكبار الشعراء.
ربّما لا يختلف الأمر مع الفنان والقوال المسرحي زياد الرحباني، الذي لم يقدمْ عملاً موسيقياً منذ أكثر من عشرين عاماً. هذا المسألة لا ينتبه إليها إلا بعض المقربين من زياد والمحبين لفنه. في مقابل ظهر زياد في كمية هائلة من المقابلات التلفزيونية والاذاعية، استضِيفَ في أرقى المحطات وفي أتفهها، في البرامج التراند المضحكة والسمجة وفي المحطات الأصولية وفي المحطات الفئوية والمحورية، من هب ودب. جانب من مقابلات زياد جوهره الترفيه والتسلية والتهكم وتزجية الوقت، نكات من هنا، لعب على الكلام من هناك، قفشات، إطناب.. لكن الجانب الآخر الذي يختلف فيه زياد عن بساطة الفنانة صباح ومرحها هو الكلام التنظيري والاقتصادي والنقد الحاد والأحلام الكبيرة وفصول أخرى.. بالنسبة للإعلاميين المهم أن زياد على الشاشة، المهم الترند وليس المضمون.
في معظم الأحيان تكون المقابلات خارج السياق الموسيقى والفنّي، نكات ونظريات، اجترار لفظي، رهاب وحديث مؤامرت واندهاش مفتعل من المضيف أو الإعلامي، وأي كلام يقوله زياد النجم يصبح موضع جدل، خصوصاً في زمن الفسبكة. الأرجح أن المحنة ليست في المقابلة الأخيرة التي ظهرت على الفايسبوك، وتضاربت الآراء حولها، وليس المشكلة في المحاورة فحسب، بل إن الأمور تأتي من ضمن سياق طويل عمره سنوات، منذ التسعينيات، بدأ زياد الرحباني يدخل في دوامة الشاشة ودوامة توظيف النجم باعتباره ربّما المخلص، ليس في أنه يسهب في الكلام في المحطات التلفزيونية والإذاعية وحتى حفلاته، بل في أن مريديه ينتظرون منه أشياء كثيرة وأوهاماً كثيرة في ظل أزمات البلد والعالم وأزمات “اليسار”. يظنون أنه “نبي المستقبل” والرؤيوي والرائي. يسمع المرء كلمات مثل “زياد قال”، و”سماع زياد”، و”أين زياد يقول شيئاً؟” و”أين اختفى زياد”؟ بالنسبة لمريديه كل شيء يفعله زياد مبرّر.
لا بأس أن نستعيد من الذاكرة، توظيف زياد في غير محله والتناتش حوله، وإن كان زياد يبدو سعيداً في هذه اللعبة… في 3 أيار 1993، كتب الصحافي الراحل جوزيف سماحة، في جريدة “الحياة” اللندنية مقالة بعنوان لبنان 2003: زياد الرحباني أم رفيق الحريري؟ ينتهي هذا المقال المخصص للمقابلة بين مسرحية بخصوص الكرامة والشعب العنيد لزياد الرحباني وبين خطة إعادة الإعمار لحكومة الرئيس الحريري الأولى.. ثمّة من وضع هذه المقالة ركناً دائما للكلام عن مقابلات زياد وكلام زياد وأفكار زياد وإيماءات زياد. هكذا تبدو المسألة ليست في ما يقدمه زياد، بل في تحميله أكثر مما يحتمل. استعان النظام الأمني به، للترويج خلال عقد التسعينات إلى أنّ العسكر هو الحل، وأنّ إميل لحود هو المنقذ، وفي السنوات الأخيرة، “أهدى” زياد المحور نفسه جملة تقول بأن فيروز تحبّ “السيد”… “ولحّق على حكي