الصحة النفسية حقّ عالمي من حقوق الإنسان”. بهذا الشعار طالبت ال#منظمة الصحة العالمية في شهر التوعية بالصحة النفسية عبر نشر الوعي اللازم والإجراءات التي تعزّز وتحمي الصحة النفسية، باعتبارها حقاً عالمياً. ويشمل هذا الحق الحماية من المخاطر. فهل يُعدّ توفير خدمات تهتم بالرعاية الصحية النفسية حاجة أولية فعليّة للمجتمع اللبناني؟
لا شكّ في أنّ أمام الواقع المتلبّد قلّما جرى الحديث عن العوارض التي قد يشعر بها المرء جراء الظروف التي تحطّم قدرته على تحمّل المزيد من المآسي. وتالياً، ولمناسبة شهر التوعية بالصحة النفسية، نطمح من خلال الروايات التي سردها أفراد لـ”النهار” إلى كسر التابو، وإلغاء ما يعتقده البعض بأنه “وصمة العار”.
لميا
تروي الشابة لميا لـ”النهار” أنّ العلاج النفسي سمح لها بتحسين ذاتها على مختلف الأصعدة. هي التي تعمل كمعالجة نفسية، لم تتوان عن اللجوء إلى العلاج بغية فهم مشاعرها، ونقاط القوّة والضعف، مؤكّدةً أنّ ذلك سمح لها بفهم جسدها وطريقة تفكيرها. وتضيف: “أحتاج إلى أحد لأتكلّم معه، خصوصاً بعد نهار طويل من معالجة اضطرابات نفسيّة أو مشكلات قد تؤثر عليّ في نهاية المطاف. بالرغم من معاينتي للمرضى طوال اليوم، عليّ أن أتخلص من العبء الموجود على أكتافي، ومن أفضل الطرق لتحقيق هذا المرتجى، ارتأيت مشاركة مشاعري مع أحد”. لكنّها تؤكد أنّه “خلال العلاج، لا تشارك تفاصيل الحالات التي تواكبها، بل تحصر الحديث عن مشاعرها بغية التمكّن من السيطرة عليها وفهمها بطريقة معمّقة”.
يارا
من جهتها، لا تثق يارا بوجود نسبة كبيرة من المعالجين النفسيين الجديرين، خصوصاً في المناطق البعيدة عن العاصمة؛ لذا، لجأت إلى مؤسسات تقدم هذه الخدمات، وأخذت الوقت الكافي لاختيار من تراه مناسباً لمواكبتها في علاجها، خوفاً من أن “يدمّرها”.
وتقول: “قبل رحلتي مع العلاج النفسي اعتبرت أنّ الحياة قد تصبح أفضل مع توافر السيولة المادية، خصوصاً أنّه خلال طفولتنا وقفت العقبة المادية أمام طموحنا. بالتالي، كنت مقتنعةً بأن المال يشتري السعادة. لكنني وصلت إلى مرحلة حصلت فيها على ما كنت أتمنّاه، وبقيت في وضع نفسيّ سيّئ. من قلقٍ، إلى ضغط نفسيّ، وصولاً إلى اضطراب قلق الانفصال، قرّرت أن استكشف نفسي أكثر، وألجأ إلى مساعدة نفسية. من هنا اتّضح لي أنّ المشكلات العائلية التي عانيت منها في صغري لا تزال تلاحقني وتؤثر في معظم قراراتي. لكنني بدأت أفهم نفسي أكثر، وأغيّر حالي كي أتحسّن”.
علي
بدوره، يقول علي إنّ مَن دفعه إلى تلقّي العلاج هو صديقه، مؤكّداً أنّ ما أراحه هو تكوين وجهة نظر موضوعيّة تجاه الأزمات. ويُضيف: “أرتاح بأن أخبر شخصاً غريباً تفاصيل حياتي. وبالموازاة، لن يحكم عليّ أو يحاسبني؛ وذلك ساعدني على اكتساب وجهة نظر جديدة، بل ساهم بتعزيز وتحسين الثقة في النفس. وتمكّنت، بعد الخضوع لعدّة جلسات علاج، من تحسين عملي وعلاقاتي المهنية، فضلاً عن وضع حدّ للتأثيرات السيّئة”.
ولفت إلى أنّ “العقبة الأبرز التي نواجهها في مجتمعنا اللبناني هي الاعتراف بالذهاب إلى معالج نفسيّ، إذ يُصنّف الفرد تلقائياً كمجنون أو مريض في حين أنّ معظم الأفراد بحاجة ماسة إلى معالجين نفسيين. فالعلاج النفسي يتمحور حول اكتشاف الذات”.
بحسب منظمة الصحة العالمية “تنطوي الصحة النفسية الجيدة على أهمية حيوية لصحتنا ورفاهيتنا إجمالاً، ومع ذلك، يتعايش شخص واحد من كل ثمانية أشخاص في العالم مع اعتلال من اعتلالات الصحة النفسية التي يمكن أن تؤثر على صحته البدنية، ورفاهه، وكيفية تواصله مع الآخرين، وسبل عيشه.
وتؤثر اعتلالات الصحة النفسية أيضاً على عدد متزايد من المراهقين والشباب. ولا يزال الأشخاص المتعايشون مع اعتلالات الصحة النفسية يعانون في جميع أنحاء العالم من مجموعة واسعة من انتهاكات حقوق الإنسان، في حين أن كثيرين لا يستطيعون الحصول على رعاية الصحة النفسية التي يحتاجون إليها أو قد لا يحصلون سوى على رعاية تنتهك حقوقهم الإنسانية. فبالرغم من أهمية اللجوء إلى العلاج النفسي، أين المراكز الطبية المختصة بالصحة النفسية في لبنان؟ وما الدور الذي تؤديه وزارة الصحة لتوفير الخدمات اللازمة لمواطنيها؟
يؤكد مدير البرنامج الوطني للصحة النفسية في
#وزارة الصحة العامة الدكتور ربيع شماعي، في حديث لـ”النهار”، أنّ “وزارة الصحة دأبت على العمل لتحسين قسم الصحة النفسية منذ العام 2013، وذلك من خلال إعادة هيكلة مع منظمة الصحّة العالمية، بالتعاون مع 60 شريكاً، وتمكّنا من تنفيذ الاستراتيجية الأولى للصحة النفسية التي كانت من العام 2015 لغاية 2020، إذ عملنا على قوانين، خدمات، وأبحاث”.
وفي الصدد، أشار شماعي إلى توافر ما يقرب من 60 مركز رعاية صحيّة أوليّة، لتقديم خدمات نفسية صحية مع أطباء نفسيين ومعالجين وخدمات صحية شبه مجانية، مضيفاً: “لدينا أربعة أقسام للصحة النفسية جديدة، منها في مستشفى رفيق الحريري، ونعمل حالياً مع مستشفى تنورين لفتح قسم”.
وفي ما يأتي الرابط للائحة مراكز الرعاية الصحيّة التي نشرتها وزارة الصحة:
وعن استراتيجية لبنان الوطنية للصحة النفسية من عام 2023 لغاية 2030، يشرح شماعي بأنّها
تسعى إلى تمكين الأفراد من التمتع بصحة نفسية أفضل، والوقاية من الاضطرابات النفسية من خلال نشر التوعيّة وتوسيع رقعة الخدمات، فضلاً عن تزويد الأفراد بنظام دعم وموارد ومعارف كافية تسمح لهم بالتوّجه إلى الخدمات المتاحة لتحسين صحتهم”.
ومن أهم أهداف الاستراتيجية:
-ضمان نفاذ أيّ شخص بسهولة، وفي الوقت المناسب، إلى خدمات الصحة النفسية ذات الجودة العالية وبأسعار معقولة.
-ضمان وجود المزيد من الوعي بالصحة النفسية ،والحّد من المفاهيم الخطأ، وتعزيز تطبيق الإجراءات التي ثبتت فاعليتها في الوقاية من اعتلال الصحة النفسية.
-ضمان المزيد من البيانات، وتنفيذ المزيد من الأبحاث المفيدة لتعزيز الإجراءات المتّخذة لتحسين الصحة النفسية.
وكان البرنامج قد عمل مع منظمة الصحة العالمية، بالتعاون مع العديد من الشركاء، على تطبيق “خطوة خطوة”، الذي يمكن تحميله مجاناً، والذي يتلقّى الفرد من خلاله الدعم النفسي تحت إشراف معالج نفسي، فضلاً عن مشروع إدارة الخط الساخن أو خط الحياة على الرقم 1564، للدعم النفسي للوقاية من الانتحار مع جمعية “
embrace”.
في حال وجود خطر وشيك بالانتحار، يرجى الاتصال بخط الحياة على الفور على الرقم 1564 (متاح على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع).
من جهتها، تؤكد رئيسة جمعية “embrace”، ميا عطوي، أنّ “الجمعية تسعى لضمان وضع صحة نفسيّة سليمة، والحصول على الرعاية كحق أساسيّ من حقوق الإنسان يجب الوفاء به لجميع أفراد المجتمع، ونحقق رسالتنا من خلال نشر التوعية والدعوة وتوفير الخدمات”.
وتشير عطوي إلى أنّ “من المهّم الانتباه إلى العوارض التحذيرية التي قد يعاني منها الفرد. ومن واجبنا نشر التوعية اللازمة لتمييز العوارض التي تؤثر حتماً على حياة الفرد على مختلف الأصعدة. ولا شك في أنّه مع الأزمات المتتالية تراجع توفير الخدمات مع هجرة عدد كبير من الكادر الطبيّ الذي لاقى بالموازاة ارتفاع الطلب من قبل المواطنين، لا سيما أنّ الإحصاءات القديمة تدلّ على أن أكثر من 25 في المئة من اللبنانيين يعانون من اضطرابات نفسية، فماذا عن حالة اليوم؟”.