خلدون الشريف – البوست
أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن مراسم بدء بناء “قناة إسطنبول”، التي تتجاوز مضيق البوسفور، من المقرر أن تجري في أواخر حزيران/ يونيو المقبل. منذ إعتلائه المسرح السياسي، تميّز رجب طيب أردوغان بأسلوب خاص يستخدم فيه استراتيجية تقوم على رفع السقوف وممارسة الضغوط التي تبلغ أحياناً حد استخدام القوة العسكرية، من أجل تحقيق مكسب أو فرض تنازل على الأعداء أو الأخصام، كما لتحسين حضور وظروف تركيا مع الشركاء والحلفاء والأصدقاء. يدرك أردوغان مكامن قوة تركيا كما نقاط ضعفها. طموحاته غير محدودة وترتكز الى قدرات وموارد لا يستهان بها. سعي أردوغان إلى تعزيز دور تركيا الجيوسياسي والسياسي والاقتصادي العالمي. تجلى ذلك في تمدد نفوذ تركيا في افريقيا وقرنها ودول البلقان ودول القوقاز كما في ليبيا وسوريا والعراق وصولًا الى الخليج العربي عبر بوابة قطر.
أما داخليًا، فقد اعلن حزب “العدالة والتنمية” طموحه في وصول الناتج المحلي التركي إلى تريليوني دولار بحلول الذكرى المائة لإعلان الجمهورية في العام 2023، أي السنة التي تشهد جولة جديدة من الانتخابات الرئاسية (هو رقم بعيد المنال في ظل تراجع الإقتصاد التركي الى ٦٤٩ مليار عام ٢٠٢٠). “قناة اسطنبول” واحدة من المشاريع التي اعلن عنها أردوغان عندما كان رئيسًا للوزراء عام ٢٠١١، في معرض حديثه عن “الوطن الأزرق”، أي التوسع من خلال بسط سيادة تركيا على مساحات شاسعة من شرق البحر المتوسط، وبحري إيجة والأسود، ارتكازًا إلى كون البحرية التركية هي الأولى في شرق المتوسط، وان “البحر المتوسط لا يشكل سوى 1% من المحيطات والبحار في العالم”، ما يدفع تركيا إلى “أن يكون لها حضور في البحر الأحمر وبحر العرب والمحيط الأطلسي، كرمز لنفوذ متزايد”، على حد تعبير الادميرال التركي المتقاعد جيم كوردنيز.
شكل مضيقا البوسفور والدردنيل منذ قرون تحديًا بارزًا لحضور ونفوذ روسيا القيصرية والاتحاد السوفياتي سابقًا وروسيا الإتحادية اليوم، وتأثرت سياسات موسكو الخارجية وحضورها بقدرتها على عبور هاتين القناتين، إذ لطالما عانت روسيا تاريخيًا من عدم القدرة على الوصول الى المياه الدافئة ارتبط المفهوم التوسعي البحري التركي سابقًا بالقوميين اليساريين لكنه تحوّل منذ مدة إلى مفهوم للدولة التركية برمتها، بعدما أصبح شائعًا على ألسنة المسؤولين الأتراك، وعلى رأسهم أردوغان الذي قال في خطاب له في آب/ أغسطس ٢٠٢٠: “كما حققت أمتنا النصر في حرب الاستقلال بالرغم من الفقر والحرمان، فلن تتردد في إحباط معاهدة سيفر بتحقيق “الوطن الأزرق” أيضاً”. قالها أردوغان بوضوح أن “الوطن الأزرق” يطيح بمعاهدة سيفر التي وقعت عام ١٩٢٠. “قناة إسطنبول” يُقدّر لها أيضًا أن تطيح باتفاقية مونترو التي وقعت بدورها عام ١٩٣٦؛ وذلك برغم تشديد أردوغان على أنّ القناة لا علاقة لها باتفاقية مونترو. وقعت اتفاقية مونترو في سويسرا في العام 1936 بمشاركة دول بينها الاتحاد السوفياتي وبريطانيا وفرنسا وغيرها، وضمنت حرية الملاحة التجارية العالمية عبر المضائق التركية وفق مقياسين: – المقياس الأول لدول حوض البحر الأسود والتي تضم كلًا من تركيا وبلغاريا ورومانيا وأوكرانيا وجورجيا إضافة طبعًا الى روسيا حيث سمحت لها بحرية المرور عبر مضائق البحر الأسود للسفن التجارية في أوقات السلم والحرب، وسمحت بمرور السفن الحربية لدول حوض البحر الأسود بدون أي تحديد. – المقياس الثاني للسفن الحربية التابعة لدول من خارج حوض البحر الأسود، فسمحت بأن تكون سفناً خفيفة لا يزيد عدد المجموعة الواحدة العابرة منها عن تسع سفن في آن واحد وبحمولة إجمالية لا تتجاوز 15 ألف طن.
البوسفور.. والدردنيل شكل مضيقا البوسفور والدردنيل منذ قرون تحديًا بارزًا لحضور ونفوذ روسيا القيصرية والاتحاد السوفياتي سابقًا وروسيا الإتحادية اليوم، وتأثرت سياسات موسكو الخارجية وحضورها بقدرتها على عبور هاتين القناتين، إذ لطالما عانت روسيا تاريخيًا من عدم القدرة على الوصول الى المياه الدافئة، فوفقًا لمعاهدة برلين للعام 1878 لم يكن يحق للسفن الروسية عبور مضائق الإمبراطورية العثمانية ما تسبب بهزيمة منيت بها روسيا في حربها مع اليابان عام ١٩٠٥ بسبب عجزها عن دعم اسطولها في المحيط الهادئ في الوقت الذي كانت فيه القواعد البحرية في البلطيق عرضة للتجمد خلال فصل الشتاء، اما قواعد المحيط الهادئ فكانت بدورها بعيدة ويصعب الوصول اليها. وعانت روسيا خلال كل الأزمات من صعوبة التصدير كما حصل خلال حرب القرم 1853-1856، وخلال الحرب الروسية التركية 1877-1878، كما تسببت الحرب التركية الإيطالية في الفترة من 1911 إلى 1912 بخسارات كبيرة للتجارة الروسية.
وجدت روسيا القيصرية في الحرب العالمية الأولى فرصة للسيطرة على إسطنبول ومضائقها. بعد تلك الحرب، منحت اتفاقية مونترو افضلية كبيرة لروسيا، وعجزت الولايات المتحدة لاحقًا عن استخدام تلك الممرات لعبور حاملات الطائرات وحاملات الصواريخ العابرة للقارات وغيرها من السفن الكبيرة على رغم انتساب اميركا وتركيا الى حلف الناتو. أمّا صينيًا، ففي حال تحول تركيا الى حلقة رئيسية في طريق الحرير الصيني سواء من خلال إقامة مصانع صينية فيها أو وضعها على خط مسار القطارات التي تنطلق من الصين نحو الشاطئ التركي لتكمل الرحلة بحرًا نحو أوروبا، لتختصر المسافة البحرية عبر المحيط الهادي والهندي وقناة السويس، فقد تزدحم المضائق اذ لا يجب أن يتحمل مضيق البوسفور أكثر من 25 ألف سفينة سنويا، أي 52% أقل من العدد الحالي. وإذا أصبحت تركيا مركزية في طريق الحرير، فسيكون مضيق البوسفور مزدحمًا بالسفن في صورة تشبه زحمة السيارات في وسط المدن الكبرى العالمية.
“قناة إسطنبول” خيار بديل لأميركا لذا، تشكل “قناة إسطنبول” بديلًا جديًا لأميركا لا يندرج تحت بنود اتفاقية مونترو اذ ترفع القناة الجديدة الحرج عن تركيا في الوقت الذي تبقى فيه على التزاماتها في البوسفور والدردنيل، وقد تشكل فرصة للصين إذا ما أرادت جعل تركيا قاعدة على طريق الحرير، ما يتيح وضع ورقة ضغط بين يدي تركيا على طاولة التوازنات الإقليمية والدولية، وهو ما يؤكده أردوغان بتصريحه أن إدارته لا تبحث في الوقت “الحالي” في الخروج من الاتفاقية، وهو ما يجعل كل الأطراف المعنية راغبة بالتفاوض معه. يعتقد محللون عالميون ومنهم الروسي سيرغي مارزهتسكي انه وبعد ٨٥ عامًا يجب مراجعة اتفاق مونترو بحيث تكسب تركيا دون التسبب بخسارة موسكو لمصلحة الغرب. تعتقد موسكو أن اثارة موضوع شق “قناة إسطنبول” يهدف لتحسين شروط تركيا في جباية الرسوم والمداخيل من جهة وتعزيز حضورها البحري العسكري مع بناء اول حاملة طائرات صغيرة وغواصات متعددة من جهة ثانية.
الخبير نفسه يقول ألا مصلحة لتركيا بوجود عسكري غربي أكبر لأميركا وبريطانيا وفرنسا. وإذا تمت اعادة النظر في بنود اتفاقية مونترو، لن يكون ذلك مرضيًا لموسكو، غير أن تعديلًا غير مؤذٍ لها قد يكون هو الحل. جليل حرشاوي: “لا يوجد الكثير مما يمكن لتركيا فعله بشأن سحب “النموذج الليبي” ليشمل قطاع غزة: ففي حين نالت الحكومة في طرابلس، التي أبرمت معها أنقرة الصفقة في العام 2019 اعتراف الأمم المتحدة، فإن حركة حماس ليست كذلك. وليس هناك من يعترف بغزة ككيان ودولة” “ليبيا ثانية”؟ بعد الإعلان عن وقف إطلاق النار في قطاع غزة، تقدم الحديث عن امكانية توقيع مذكرة بحرية بين تركيا و”حماس”، تكون مشابهة لتلك التي وقعتها تركيا قبل عامين مع طرابلس الغرب، في خطوة تهدف لضم قطاع غزة المحاصر إلى اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وليبيا الموقعة منذ عامين.
وهذا من شأنه أن يوفر لإدارة الجيب الفلسطيني، بقيادة حماس، دعما من البحر، بحسب أنقرة، على حدّ ما كتب المحلل الروسي إيغور سوبوتين، في “نيزافيسيمايا غازيتا” الروسية. ومن شأن هذه المبادرة أن يكون لها دور في إضفاء الشرعية على المطالب التركية في عدد من المناطق المتنازع عليها في شرق البحر الأبيض المتوسط، وفق سوبوتين. في المقابل، يشكك محللون بواقعية خطة بناء ممر بين تركيا وغزة، وبحسب الباحث في مركز الأبحاث السويسري “المبادرة العالمية لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية”، جليل حرشاوي فإنّه “لا يوجد الكثير مما يمكن لتركيا فعله بشأن سحب “النموذج الليبي” ليشمل قطاع غزة: ففي حين نالت الحكومة في طرابلس، التي أبرمت معها أنقرة الصفقة في العام 2019 اعتراف الأمم المتحدة، فإن حركة حماس ليست كذلك. وليس هناك من يعترف بغزة ككيان ودولة”.
جدوى القناة تركيًا الأسباب التركية الموجبة لـ”قناة إسطنبول” ترتبط بشكل أساسي بالتخفيف من الازدحام في مضيق البوسفور حيث تعبر نسبة عالية من السفن في العالم، تزيد عن قناة السويس، التي يمر عبرها 19 ألف سفينة سنويًا (2020)، وعن بنما التي تعبرها 13 ألف سفينة سنويًا بينما يمر من مضيق البوسفور 53 ألف سفينة سنويًا. ويبقى معبر “ملقا” هو الأهم في العالم حيث يفوق عدد السفن التي تعبره 83 ألف سفينة سنويًا. وملقا مضيق جنوب شرق آسيا بين ماليزيا وبين جزيرة سومطرة في اندونيسيا، يصل بين بحر أمدنا في المحيط الهندي من جهة الشمال الغربي، وبين بحر الصين جهة الجنوب الشرقي. ومن الأسباب الموجبة كذلك تحريك الاقتصاد التركي ودعم قطاع السياحة البحرية والشاطئية.
إذ أن مشروعًا بكلفة ١٥ مليار دولار ستذهب الى شركات محلية وتاليًا الى جيوب الأتراك يوفر مدخولاً مقبولًا، كما يخلق مشروعات صغيرة ومتوسطة سريعة الانتاج، وآلاف الوظائف ذات الدخل الثابت، وستجبر الحكومة على إنشاء سدود مائية جديدة تصب في خانة تحريك الاقتصاد والسياحة وتربية الأسماك. تشير الأحداث المتتالية إلى أنّ مشروع “قناة إسطنبول” يسلك طريقه نحو الترجمة العملية، برغم ارتفاع أصوات المعارضين في الداخل والخارج.
وتشير التجارب السابقة إلى أنّ أردوغان الطامح لرئاسة بلاده مجدداً سيمضي قدماً بشق القناة، أو بمبادلتها بما يعادل مكاسبها، ومن المؤكد أنّ طريقه لن تكون سهلة في الحاليْن، وذلك في وقت تواجه فيه تركيا تحديات كبرى سياسياً في ظل ادارة جو بايدن التي انقلبت تمامًا على صداقات ادارة دونالد ترامب، وماليًا من خلال انهيار قيمة العملة الوطنية من ٨٥ سنتًا لليرة الواحدة عام ٢٠٠٨ الى ما دون ١٢ سنتًا عام ٢٠٢١، واقتصادياً من خلال انخفاض الناتج القومي من حوالي ٨٦٩ مليارًا من الدولارات لعام ٢٠١٦ الى ٦٥٠ مليارًا عام ٢٠٢٠ حسب البنك الدولي، تحديات تدفع الإدارة التركية لإبتكار مخارج تثبت مكانة تركيا السياسية وتحمي العملة الوطنية وتعزز الإقتصاد المتراجع.