ثمة مَن يرى الذكريات كالضيوف، بعضها بحاجة إلى دعوة حثيثة للحضور، وبعضها الآخر يحضر بلا موعد. يجمع أنثروبولوجيون على أن الذاكرة تنطوي على مدّ هائل من الغموض الذي سرعان ما يتبدد عندما تتحوّل الذاكرة أداة ربط إجتماعية أو سياسية أو عقائدية لهذا المشروع أو ذاك.
لا ريب أن التاريخ يشهد على صراعات هائلة حول سياسات الذاكرة ومحاولات الإستحواذ عليها، بغية إسكانها أو توظيفها في هذا الحيّز العقائدي أو ذاك. وربما تكون ذاكرة المظلومين من أكثر الذاكرات وأشدّها تلبية لشرط الإستحواذ هذا، والذي عادة ما يكون قميئاً. فذاكرة المظلومين هي الأكثر مرونة للسرد، تتحوّل إلى نص مترامي الأطراف يقوم على محض الحزن وما يكتنف هذا الحزن من بكاء ولطم ونحيب. إن ذاكرة المظلومين هي الأقدر على تحويل الحاضر المعيش إلى حيّز تأبيني عزائي، حيث مفردات التحام الجماعة تكون كالصمغ الذي يشدّ أعضاءها بعضهم إلى بعض.
ليس التاريخ في سياق ذاكرة المظلومين نسقاً حدثياً يخضع للمراجعة والتنقيب وإعادة القراءة، بعين تتحرى صحة الحدث وما يداخله من مبالغات وتحريفات وتراكمات أسطورية عبر جري الأيام والسنين. كلا، إن التاريخ في عُرف ذاكرة المظلومين ينطلق، أكثر ما ينطلق، من الحاضر، ومن حاجة أولياء أمر هذا الحاضر إلى الهيمنة ورسم المشهد بما يتلاءم مع سطوتهم. إن التاريخ في هذا السياق البكائي لا يتجاوز بالعادة أن يكون مستودعاً، ليس لأسرار الماضي ووقائعه، إنما لحاجات الحاضر، وهو ما يشير إليه الأنثروبولوجي الفرنسي بيير نورا.
سيد المشهد
إن المتخيَّل في هذا المحل هو سيّد المشهد، وآليات سرد هذا المشهد هي التي تحدد صورة الواقعة التاريخية وأطر توظيفها بل وأدلجتها بما يتناسب مع سادة القوم والمآرب السياسية أو الحربجية لهؤلاء السادة بالتحديد. إن الذاكرة في هذا الصدد هي هيئة تسكعية، هيئة إنتقائية بل وفي بعض متونها هي هيئة استنفارية على الدوام، وربما إلى أبد الآبدين. فذاكرة المظلومين تستدعي، أكثر ما تستدعي، استنفار جماعتها في علاقتهم مع الآخرين ومع من يخالطهم أو يجاورهم من جماعات، وصولاً إلى سَوْق هذه الذاكرة لناسها إلى الإرتياب في كل مَن لا يشاركها سردية حزنها عميقة الدلالات والجذور. فالآخَر في هذه المعمعة يجب أن يكون دائماً محل ترصّد وانتباه، إذ أن هذا الآخر يتحيّن فرصة الإنقضاض علينا نحن المظلومين!
إن العقيدة التي غالباً ما تُستمدّ من ذاكرة المظلومين هي ربيبة ماض متخيَّل وحاضر مأزوم، وأكثر ما تحفر هذه العقيدة في ناسها تلك الرغبة في الإنكماش على الذات والرجوع عند كل مفترق إلى لحظات تأسيسها الأولى القابعة في ظلمات التاريخ.
غالباً ما لا يحظى المحيط القريب أو الإقليم وحتى العالم، بحظ من القبول في النسق الثقافي الذي يتأسس على ذاكرة المظلومين. فآليات الضبط والتصفيد التي يبتدعها القيمون على هذه الذاكرة ترمي بناسها لأن يروا في فرح الآخرين شماتة في حزنهم، وفي رقص الآخرين رقصاً فوق آلامهم، وفي ارتياد الحياة ببساطة تعدّياً على شروط حياتهم…إن المتخيّل التاريخي الذي تؤسسه ذاكرة المظلومين يشحذ، بما يفوق التصورات والتوقعات، تخيلات الذات عن نفسها، لا سيما عندما تكون هذه الذات محلّ احتكاك مع الآخرين. ففعل التذكّر عند ناس هذا النمط من الذاكرة، ينطلق من حاضر خاص له تصوراته عن نفسه، وتراه يتمتع –وهنا الطامة الكبرى– بيقين هائل حيال هذه التصورات. إن شحذ الذاكرة في هذه السياقات، التي غالباً ما يرسم التوتر مشهدها، تراه كارثياً كما يعلمنا التاريخ. إن هذا الشحذ لا يتوانى عن قلب المعادلة البسيطة لعلاقة الماضي بالحاضر، فإذا بالحاضر يتحكّم بالماضي، وإذا بتلك العلاقة التواشجية بين الآن وما قد مضى تنفي الزمن، ليتحوّل التاريخ في هذه اللعبة المأسوية كبش فداء الحاضر الممزق، أيضاً وأيضاً، والمأزوم…
إن توريط التاريخ في أزمات الحاضر، يشدّ من أزر ذاكرة المظلومين التي تعود بدورها لتشدّ من أزر هذا التاريخ في لعبة مجالها الأرحب ليس الوثيقة التاريخية، ولا النقش الحجري ولا الدراسة المقارنة أو تعليق الحكم حيال حقيقة هذا الحدث التاريخي أو ذاك، إنما التخييل، وفقط التخييل.
التاريخ المتخيل
ثمة ما يشبه الإجماع بين أهل الإختصاص على أن إنعام النظر في ذاكرة المظلومين -وما شاكل من الذاكرات التي تكون محل انضباط وتوظيف- يشي بأنها ذاكرة شفاهية إلى حدّ كبير. فحتى وإن كان التاريخ المتخيّل لهذه الذاكرة قد أمدّها بكمٍّ هائل من المَرويات والسرديات والحكايا والقصص والأخبار، فإن جوهر هذه الذاكرة هو شفاهي بامتياز. وليست قدرة سادة جماعات هذه الذاكرة على اختزال كل الألسن في لسان واحد، إلا انعكاساً للبُعد الشفاهي الذي يؤسس هذه الذاكرة من كل حدب وصوب. فـ”الهوية السردية” –إذا ما أردنا أن نستعير بول ريكور– لهذه الأنماط من الذاكرات، غالباً ما تختزل التاريخ عبر لهج الألسنة والمنبريات وكل ما له علاقة بألعاب الولاء والنفور.
قد تُداخل ذاكرة المظلومين عنجهية تمهّد لنمط من الأداء الجسدي يكون محل إجماع بين أفرادها، وقد يداخل هذه الذاكرة ضعف مستتر يعبّر عن نفسه بجملة من ضروب احتقار الآخرين، بيد أنها في كل الحالات تراها تتماهى في كل حقبات تاريخها مع مشهدها البدئى، حيث الخيال سيّد القول وسيّد الشفاه وسيّد المنابر وحركات الأجساد.
تكفّ ذاكرة المظلومين في مجمل تجلياتها عن أن تكون رحلة عابرة بين جملة وقائع التاريخ، بل تراها، وكما يرى إلى الأمر الأنثروبولوجي الأميركي كليفورد غيرتش، بمثابة وجهة نظر في العالم. وبحسب المعجم الألماني –وقد دخلتْ الكلمة إلى المعجم الإنكليزي على كل حال– بمثابة الـWeltanschauung والترجمة الأقرب هي world-view.
بعكس تلك المقولات الحديثة والتي ترى أننا كبشر، نتبيّن وجودنا في العالم عبر الآخرين، فإن جماعات “ذاكرة المظلومين” جلّ وجودهم في العالم يقوم على تدشين هذا العالم عبر محض ذاكرتهم تلك.
الذاكرة الفردية
بالنسبة إلي، كشخص شغوف إلى حد الهوس بنصوص الذكريات، الفردية منها والجماعية، فإن ذاكرة المظلومين هي من أكثر الذاكرات مللاً. فرغم ما تحفل به من حيوية احتفالات التأبين والإنشاد الحزين والتطلع الدائم نحو السماء والحروب، يبقى استدعاء الموتى (apophrades) شرطها المتين في هذا العالم الدوّار. فليس من يُسر الأمور أن يكون العالم مجرّد مساحة مسوّرة لاستدعاء مَن ماتوا، لا سيما إذا تمظهَر الإستدعاء هذا، أكثر ما تمظهر، عبر المماهاة مع هؤلاء، كأن يكون حدث الموت محل تهنئة من قبل الآخرين، وأن تزدهي الأمهات بأشلاء أبنائهن.
إن ذاكرة المظلومين، كما تصدّى لها أنثروبولوجين كثر، تعكس في العمق حقيقة أن ناسها مساكين. فأن تتحول ذاكرة مجموعة بشرية إلى محض عقيدة سياسية يصار عبرها إلى الإستحواذ على الماضي وتشكيل الهويات، بما يقتضيه الحال في الغرف السرية وبما تقتضيه لعبة الأمم والملوك والرؤساء والمرشدين، يوجب القول أن ناس هذه الذاكرة هم بالفعل مساكين.
يتكلّم عالم الآثار الألماني يان إسمان عن “التاريخ الذي يُحاك بنسيج الحاضر”، حيث نصّ الذاكرة يتحوّل إلى سلاح فتّاك، تماماً مثل المسيّرات والبنادق والصواريخ والكهوف. والهوية في هذا المعترك هي على الدوام رهن تخيّلات المشهد البدئي، معطوفاً على حاجات الحاضر السياسية والعسكرية، بل ترى الهوية في متون هذا المعترك أقرب إلى شيفرة سرية يصار إلى تفكيك رموزها عطفاً على حركة الميدان وسير المفاوضات.
أروع الهويات
من النافل أن التصدي لنصّ الذاكرة –واستطراداً، لنص الهوية– من أكثر الأمور تعقيداً بسبب ما يداخله من مقاربات في السيكولوجيا والأنثروبولوجيا والألسنية وغيرها من العلوم الإنسانية، وعلى رأسها الأدب، ذلك أن لهاث هذه الإختصاصات ما انفكّ يزداد خلف هذا النص المعقّد منذ سنوات وسنوات في محاولة لتحديد شروطه في التاريخ وفي الحاضر بل وفي الماوراء. بيد أن نص الذاكرة، ورغم تعقيدات مكوناته وتشعباتها، فإنه في بعض تعييناته تراه بمنجى من هذه التعقيدات، حيث ثمة رحابة من نمط جميل تقوم على علامة السؤال… إن أروع الهويات وأكثرها رحابة هي تلك التي تقوم على محض محاولات فهم الذات، حيث الإجابة محل توارٍ وفرار. فمن الخطورة بمكان أن يقع الإنسان مغبة يقين مَن يكون. التاريخ يحفل بالثرثرات والخرافات ولا بأس بهذا الأمر. أما اليقين، فليس أكثر من واقعة مؤجلة وتقع خلف كل الآفاق… وكما قال الناقد الأدبي الشهير هارولد بلوم: “تهرم الثرثرة وتصبح خرافة، ثم تهرم الخرافة وتتحول إلى يقين”، وهو ما علينا الإحتياط منه في هذا العالم المفتوح على كل ضروب الحضور والغياب.