
بمجرد أن أعلنت القوات البحرية الأميركية، أن حاملة الطائرات “جيرالد فورد” ستعود إلى قاعدتها الأصلية في فرجينيا، تاركة شرق البحر المتوسط، في الرابع من الشهر الجاري، بعد أن أتت لدعم وحماية إسرائيل، إثر اندلاع طوفان الأقصى والحرب في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، فإن الرسالة قد وصلت إلى من يعنيهم الأمر في إسرائيل المنزعجة والمرتبكة، بأن الولايات المتحدة الأميركية قررت أن الوقت المخصص للحرب على غزة قد بدأ ينفد، وعلى إسرائيل الشروع في إحصاء النتائج وبداية الاستعداد لترتيبات ما بعد هذه الحرب، التي بلغت مرحلتها الثالثة.
لكن مع بقاء حاملة الطائرات الأخرى دوايت دي أيزنهاور في المنطقة، تأكد بطبيعة الحال بقاء دعم أميركا لإسرائيل في الحرب الدائرة في غزة، وما يمكن أن يستجد. وهذا معناه أميركياً أننا دعمناكم وكانت لكم الفرصة كاملة منذ عملية طوفان الأقصى، والآن عليكم التفكير في اليوم الثاني لما بعد الحرب، وماذا ستكون الحالة نتيجة لذلك، وما هي الترتيبات؟
وإذا كان مستشار الرئيس الأميركي لشؤون الطاقة آموس هوكشتاين، هو الذي أشرف على التوصل إلى اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، بموافقة ومشاركة كل الأطراف المعنية لتأمين النفط للجميع.. وفي واجهتها الصورية الدولة اللبنانية وفي خلفيتها إيران والولايات المتحدة الأميركية، فإن هذا الفريق الذي نجح في تحقيق هذا الإنجاز، لن يقبل أو يسلم بسهولة بالإطاحة به الآن وببساطة، وحسب رغبة الرؤوس الحامية في إسرائيل.
أغلبية الأطراف فهمت اللعبة وحدودها، وبدأت خطوات ترتيبها وتوضيبها. أي عدم توسيع نطاق الحرب لتصبح إقليمية، وحصرها قدر الإمكان في غزة.
في الخطاب الشهير، الذي أعقب اغتيال إسرائيل للشيخ صالح العاروري في قلب الضاحية، لم ينتبه كثر إلى أن السيد حسن نصرالله استخدم مع لهجته الواثقة والحادة، تعابير جديدة لم يسبق أن استخدمها كثيراً. وهي تعبير مستجد على لسانه حين قال: “قرارنا بالمشاركة في الحرب في الجنوب، قرار واءم ما بين الرؤية الاستراتيجية والحاجة إلى مساندة غزة ومُراعاة المصالح الوطنية اللبنانية”.
أضاف: “بالنهاية نحن نعيش في بلد فيه صعوبات وفيه تعقيدات وفيه ظروف وتحدّيات، واءمنا بين هذا كلّه وذهبنا إلى هذه الصيغة من القتال. وهو قتال فعّال جدًا وقوي جدًا وكبير جدًا، مئات العمليات نُفّذت حتى الآن”.
وكلمة مراعاة “المصالح الوطنية اللبنانية” المستجدة في خطاب السيد نصرالله سبقت الخطاب، الذي عاد وأطلق فيه للمرة الأولى رؤية وتطلع الحزب ومن معه ومن يسانده، للمرحلة المقبلة. وهي كما كشفها في الخطاب الثاني والأخير له منذ ذلك الوقت، الحديث عن ما أسماه “إننا أمام فرصة تاريخية الآن للتحرير الكامل لكلّ شبر من أرضنا ولتثبيت معادلة تمنع العدو من اختراق سيادة بلدنا. وهذه الفرصة فتحتها الجبهة اللبنانية من جديد”، حسب تعبيره.
وهو الكلام الذي شرحه رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، الذي التقط الإشارة أو نُقلت له بوضوح حين تحدث قائلاً : “إننا نعمل على حل دبلوماسي للوضع في الجنوب ربما سيكون تطبيقه مرتبطاً بوقف العدوان على غزة”. قائلاً: “إن المطلوب إعادة إحياء اتفاق الهدنة وتطبيقه، وإعادة الوضع في الجنوب إلى ما قبل العام 1967، وإعادة مزارع شبعا التي كانت تحت السيادة اللبنانية قبل البدء باحتلالها تدريجياً، والعودة إلى خط الانسحاب السابق بموجب اتفاق الهدنة”.
واللافت، أنه كما أن السيد نصرالله يقاتل ويستند من دون إعلان يومي إلى قوة ورضى وتوجيهات المرشد الأعلى في طهران، فإن اخرين في لبنان باتوا يسيرون على هدي لهجة السيد نصرالله، أولهم الحكومة اللبنانية وثانيهم نائب رئيس مجلس النواب المتقدم والمحترف، في العلاقات العامة والتدليس والتملق الياس أبو صعب، وآخرهم سيد الألاعيب “وتبييض الوج”، صاحب العنتريات الزائفة جبران باسيل.
فمن استمع إلى تهديدات ولهجة رئيس التيار تجاه إسرائيل، يتذكر تلك المقولة الشهيرة لاحد الساسة المرشحين لرئاسة الجمهورية، حين قال مخاطباً المسؤولين السوريين، بأنه سيرمي نفسه تحت عجلات الدبابات إذا أرادت الانسحاب من لبنان.
وبالأمس راح باسيل يهدد إسرائيل ويتوعد، وكأن قوات النخبة والحرس القديم في التيار، مع غادة عون، باتت تحتل كريات شمونة وتقف على أبواب المطلة!
هذا الكلام يوضح أن حقيقة وأبعاد ما يجري إعداده وترتيبه بإشراف هوكشتاين في لبنان من جهة، ووزير خارجية أميركا انطوني بلينكن، من جهة أخرى، هو إبقاء الأمور على حالها في هذه الفترة على مستوى لبنان وبشكل مضبوط قدر الإمكان. ومن ثم التفرغ إلى مفاوضات الترتيب الجدي بعد نهاية حرب غزة. وبالتالي، تأجيل انتخاب رئيس الجمهورية. لتكون كلها فيما بعد ترتيبات في حمولة عربة واحدة، تحتوي على كل التشكيلة من الثمار، إذا ما بقيت إلى ذلك الوقت بساتين وحقول جراء انتهاء الحرب والمواجهة العسكرية الدائرة الآن.
الجميع يتحدث من دون أن يدرك أن الهم الأميركي الآن، ومنهم “هوكشتاين أفندي”، هو تأمين استمرار اتفاق استخراج وتدفق النفط والغاز الإسرائيلي إلى الأسواق، ومحاولة إنهاء الحرب وقطف نتائجها قبل نهاية ولاية الرئيس بايدن التي شارفت على الفشل الرئاسي.
لهذا كله، فإن أقصى ما يمكن الوصول إليه الآن كما هو ظاهر، هو إبقاء الأمور كما هي على سخونة محاطة بالعناية شبه المقيدة، بانتظار ما سيقوله الميدان الذي يترقبه السيد نصرالله ويحيى السنوار ويوآف غالانت.