
أنطوان مراد – نداء الوطن
ينبغي التمييز بوضوح بين مبدأ التحييد ومفهوم الحياد بالنسبة لأي دولة معنية في الحفاظ على مسافة من المحاور والأحلاف الإقليمية والدولية، لاسيما وأن ثمة فارقاً في التفسير القانوني للحالتين. ولبنان في ظل التطورات المتلاحقة على أرضه ومن حوله يقف عند مفترق مفصلي يفرض عليه الخيار بين الاستمرار قسراً في الغالب في الارتباط الخارجي التبعي بهذه الدولة أو تلك، وبين بلورة موقف مستقل فعلاً يحمي من خلاله سلمه الأهلي واستقراره.
وفي هذا الإطار، يبدو أن دعوة البطريرك الماروني إلى الحياد الإيجابي والناشط تعتريها إشكالية في التعبير عن النية الطيبة من وراء هذا الطرح، لا سيما وأنه ولّد واقعاً جدلياً منذ طرحه وبشكل فاجأ كثيرين محلياً وخارجياً، علماً أن الفاتيكان لم يبد أي حماسة بل لم يبد أي تفهم في حينه لدعوة سيد بكركي، انطلاقاً من تفسيره للحياد بحسب المفهوم الدولي المتعارف عليه والذي يفترض موقفاً دولياً موثقاً وإجماعياً يتم تكريسه على مستوى القرار في الأمم المتحدة، وهي مسألة معقدة وتحتاج إلى تشاور عريض وحيثيات قوية. وهذا ما لم يتلقاه الكرسي الرسولي بالترحاب ودفعه إلى الفتور، علماً أن البطريرك الراعي كان يقصد ربما صيغة بين الحياد والتحييد.
ويشرح المحامي ميشال اقليموس الذي كان عضواً في فريق عمل الرئيس ميشال سليمان في إعداد إعلان بعبدا الذي تضمن التزام الفرقاء المشاركين في هذا الإعلان مبدأ تحييد لبنان، فيشير إلى أن الحياد يقتضي موقفاً صريحاً من المنظمة الدولية وتحديداً من مجلس الأمن الدولي، على خلفية توافق إجماعي أو شبه إجماعي على إقرار حياد لبنان بما يعنيه ذلك من تثبيت هذا الحياد وفق منطق القانون الدولي.
أما التحييد، فهو قرار لبناني وطني سياسي يتوافق عليه الفرقاء اللبنانيون كمبدأ أولاً، وهذا ما حصل عندما توافق القادة السياسيون الحاضرون في الحوار الذي قاده الرئيس ميشال سليمان في قصر بعبدا بتاريخ 11 حزيران 2012 على تحييد لبنان عن الصراعات الدولية والإقليمية وتجنيبه الانعكاسات السلبية للتوترات والأزمات في المحيط. وقد ورد مبدأ التحييد في البند 12 من إعلان بعبدا، علما أن البند 17 نص على أن جميع الأطراف تلتزم به، على أن يتم إبلاغ نسخ من الإعلان إلى جامعة الدول العربية ومنظمة الأمم المتحدة. وقد تم تسجيل إعلان بعبدا كوثيقة رسمية من وثائق الأمم المتحدة ونال تأييد مجلس الأمن في بيان صادر عنه.
كما أن الأمين العام لجامعة الدول العربية نوّه بالإعلان معتبرا أنه أرسى مجموعة من الثوابت والقواسم المشتركة التي أجمع عليها اللبنانيون. ومن المهم التوقف عند استثناء إعلان بعبدا في تأكيده على تحييد لبنان، الالتزام بقرارات الشرعية الدولية والالتزام بالإجماع العربي وفق ميثاق الجامعة العربية، والالتزام بالقضية الفلسطينية”.
على أن الملفت، أن “حزب الله” سرعان ما تنصّل من إعلان بعبدا على الرغم من أنه وافق عليه وكان شريكاً في الاتفاق الجماعي عليه في الحوار الوطني. بل إنه أصرّ على التنكيل بالنأي بالنفس (وهي عبارة تبسيطية استعملت لمبدأ التحييد)، فتورط في الحرب السورية من الباب العريض مستخفاً بالدولة اللبنانية وسيادتها وقرارها وبسائر اللبنانيين وبالميثاق الوطني والدستور واتفاق الطائف والقرارات الدولية.
ولذلك لا بد من موقف وطني يعيد تظهير مبدأ التحييد الذي يرتدي قوة ميثاقية وشرعية لا لبس فيها، لأن التحييد يمثل ركناً من أركان خلاص لبنان من وتيرة الأزمات المتعاقبة، علماً أن لا شيء يمنع ثتبيته في الدستور، على أن يلتقي مع بلورة سيادة الدولة على قرارها وأراضيها بسلاحها الشرعي حصراً. وحينذاك يمكن الانصراف إلى معالجة الكثير من الملفات والأزمات والمشكلات والإشكالات، بروح الشراكة وبعيداً من أي ضغوط داخلية وخارجية.
وفي مسألة حصرية السلاح تحديداً، فمن الواضح أن الأمور تتقدم ولو بوتيرة بطيئة نسبياً، لكنها ثابتة وتعكس جدية بالحد الأدنى، ما يسمح بالقول إن الوضع في لبنان كخط بياني عام يتقدم إلى الأفضل، ولو شابته على الطريق خروقات وإرباكات ميدانية وسياسية. فصحيح أن المفاوضات الأميركية الإيرانية تركز على الملف النووي الإيراني، لكن ذلك لا يعني إهمال مسألة الأذرع التي تعتمد عليها إيران في المنطقة، باعتبار أن القرار في إنهاء هذه الأذرع عسكرياً ومالياً متخذ ولا يحتاج إلى حوار، لأنه يخص أوضاعاً في دول معينة مستقلة. ومن هنا يمكن تفسير الاستمرار في مسار ضبط سلاح “حزب الله” وصولاً إلى تسليمه بالكامل للدولة اللبنانية، في مقابل استمرار الغارات والهجمات على الحوثيين في اليمن، علماً أن ثمة معطيات ترجح أن يشن الجيش الشرعي اليمني هجوماً واسعاً على الحوثيين في المدى القريب بهدف تحجيم سطوتهم ودفعهم إلى التسليم بحل واقعي يلغي هيمنتهم بشكل ملحوظ ويدفعهم إلى حلول واقعية.
ويبقى الرهان على أهمية تصرف الدولة اللبنانية حكماً وحكومة ومؤسسات أمنية بثقة أكبر تلغي بعض التهيّب والحذر والتحفظ في مسار تطبيق القانون والدستور واتفاق وقف النار والقرارت الدولية لا سيما لجهة حصرية السلاح، مع الحرص على أداء يبتعد عن الاستنسابية والتشفي، وهو ما يوحي حتى الآن بأن الأمور تتقدم على السكة الصحيحة.