منير الربيع – المدن
صور كثيرة يمكن أن تحفظ في الذاكرة من قمّة جدّة. وتسميات أكثر يمكن إطلاقها عليها. ويمكن للصورة أن تتطابق مع التسمية. هي قمّة محمد بن سلمان متوسطاً رؤساء الدول العربية. وكأن طريقه باتت مفتوحة إلى العرش. قمّة بشار الأسد الذي يتوسط رؤساء عرب خلفوا من أسقطتهم ثورات الربيع العربي، فيما هو يعود بكتف مرفوعة، ملقياً دروسه على مجالسيه كونه الأكثر خبرة في استخدام القوّة وفي الثبات بالموقع. لكن الصورة الأبرز كانت للرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي، مرتدياً بزته العسكرية وهو يخوض حرباً وجودية لبلاده، فيما آخرون خاضوا معارك وجودية لأنظمتهم.
الربان وما تحمله السفينة
بعد لقائهما بالرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، خرج الأمين العام السابق للحزب الشيوعي اللبناني جورج حاوي برفقة رئيس الحزب السوري القومي الإجتماعي عصام المحايري، فألقى المحايري درساً على حاوي في سبعينيات القرن الماضي، كانت خلاصته: “يا رفيق جورج، هذه الأمة سفينة، ولهذه السفينة ربان واحد، وهذا الربان هو حافظ الأسد”. من هنا وبعد عقود على هذا الإسداء الذي قدّمه المحايري، لا بد من العودة إلى السؤال حول هوية “ربّان سفينة هذه الأمة”. بلا شك أن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان أرادها له، في الصورة والمضمون، ومن خلال التركيز على أن تكون القمّة استثنائية في حضور جميع الدول، وفي إعادة سوريا إليها. ولكن لا يمكن لبشار الأسد وضع الراية جانباً، فهو إبن نظام لطالما تغنّى بوصف بلاده بأنها قلب العروبة النابض، وبأن رأس النظام هو قبطان العرب. ولا بأس إذا ما غرقت السفينة بجماجم أو جثث أو حتى حمولات هائلة من المخدرات.
زيلينسكي.. وبشار
صورة الأسد في القمّة، تمثّل قدرة على التضحية بكل شيء في سبيل الحفاظ على السلطة أو على النظام، ولو كان ذلك على حساب الناس. أما صورة زيلينسكي فلها معنى مختلف، حضر الرجل ببزته العسكرية، حاملاً قضية بلاده ودائراً في أصقاع العالم لشرحها والدفاع عنها والحصول على دعم لها. لم يكن ينقص الرجل سوى كوفية ياسر عرفات، تلك الكوفية التي ضجّت في الأمم المتحدة متسلحّة بالبندقية في يد وغصن الزيتون في اليد الأخرى. يسعى الرجل للدفاع عن حدود بلاده، ولا يسقط غصن الزيتون. فيما الأسد حضر رافعاً بندقيته، بعدما اقتلع الزيتون أو أحرقه.
جمعُ زيلينسكي وبشار الأسد، ينطوي على تناقضات متعددة. فلدى الغرب، يمثل زيلينسكي إعادة احياء محور مواجهة الروس، أو ما يطلق عليه الغربيون الدفاع عن الديمقراطيات والحرية، أو هو على الأقل الرجل الذي يدافع عن شعبه، فيما بشار الأسد هو رمز للديكتاتورية وارتكاب المجازر بحق شعبه الذي طالب بالحرية. على الرغم من ذلك، قامت القمّة على مهرجانية فيها نوع من استعراض قوة العلاقات الديبلوماسية، خصوصاً لناحية تنوع الضيوف والاهتمامات، في موازاة العناوين الأساسية المحددة للقمّة، والمتعلقة بالملفات العربية الكلية، من اليمن، إلى ليبيا، السودان، فسوريا ولبنان.
الديبلوماسية السعودية.. الصينية
رمزية الرئيس الأوكراني بكل معانيها، تتناقض مع رمزية الأسد. فمن يؤيد أوكرانيا من دون الوقوف في معاداة روسيا، يعني أنه يريد تكريس مبدأ أساسي، وقف الحرب، ومنع الدول الكبرى من ابتلاع الدول الصغرى، أو من تجاوز حدودها. ذلك لا ينطبق على النظام السوري، الذي استدعى قوات أجنبية كثيرة إلى سوريا، ولا يمانع من إعادة اجتياز حدود بلاده باتجاه الدول الأخرى. لا ينفصل حضور زيلينسكي عن مسار زيارة وزير الخارجية السعودية فيصل بن فرحان العاصمة الأوكرانية كييف، حين قدّم مساعدات تصل إلى حدود 400 مليون دولار، ومنها انتقل إلى روسيا. يأتي حضور زيلينسكي في القمة العربية تكملة لهذه السياسة السعودية، وهو ما يتكامل مع الديبلوماسية الصينية. إذ يتركز جوهر الموقف لدى الصين بمنع روسيا من الإنهيار، مقابل عدم تسليحها، وترسيخ مبدأ وقف سياسات الغزو والتوسع والاجتياحات، أي اتخاذ موقف ضد الاعتداءات على دول الجوار. ما تريده الصين هو أن لا تنهزم روسيا ولا تنهزم أوكرانيا. من هنا يتبدى نشاط الديبلوماسية الصينية من خلال المبادرة التي تقدمت بها للوساطة بين أوكرانيا وروسيا، وبين السعودية وإيران.
يحضر الرئيس الأوكراني، في خضم ظهور العالم العربي كله في صورة عدائية تجاه الديمقراطية، ولكنه لا يريد أن يكون على عداء مع الغرب. فمقابل التطبيع مع الأسد، يأتي الترحيب بزيلينسكي واحتضانه. وهذا النوع من جمع التناقضات، لا أحد يتمكن من القيام به سوى مخيلة سياسية عربية، تفتعل مسارات جديدة لا نكنه جدواها بعد. وبالتالي، فهو مسار تنطلق فيه السعودية للاحتفاظ بالعلاقة مع الغرب في مقابل الانفتاح وتعزيز العلاقات مع الشرق، على الرغم من مشروع الغرب القائم على دمقرطة العالم، في مقابل تصدّي من يمثّل الشرق لهذا المشروع. وقد صدرت تصريحات كثيرة بهذا الصدد على لسان الرئيسين الروسي والصيني.