كتب نقولا ناصيف في “الأخبار”:
سواء استجيبت مبادرة الرئيس نبيه برّي أم لا، الا انها اضحت اشبه بالحصان يتقدّم العربة. من دونه لن تتزحزح من مكانها. ومن دونها لن يصل احد الى اي مكان. ليس مؤكداً ان الحوذي سينجح في جرّها بكل اثقالها، ولا هو مؤكد ايضاً انها ستبلغ الى نهاية طريقها.
بعد سؤاليْ الموفد الفرنسي الخاص جان ايف لودريان، قوبلت مبادرة الرئيس نبيه برّي برفض مماثل. مناوئو المبادرتين هم فريق المعارضة المسيحية. لم يحظوا بتأييد الحزب التقدمي الاشتراكي ولا النواب السنّة الوسطيين. بذلك اعيد الاشتباك الى واجهته الاصلية والفعلية: شيعي – مسيحي. المرحبون بحوار لودريان هم انفسهم المرحبون بحوار رئيس المجلس.
اكثر من تقاطع بين مبادرتيْ الرجلين ناهيك باختلاف واحد: يتقاطعان في حصر الحوار ببند وحيد هو انتخاب الرئيس فحسب، وبتحديد مهلة زمنية محددة لانجازها عند لودريان يومان وعند برّي سبعة ايام، وكذلك بحصر الاتفاق بين الكتل النيابية صاحبة صلاحية اختصاص الاقتراع لانتخاب الرئيس اضف تمثيلها قوى حزبية وغير حزبية. اما ما يفرّق احداهما عن الاخرى، فالغطاء الدولي والفرنسي خصوصاً للاولى في حضور لودريان، بينما قصر برّي مبادرته على طابع محلي يكتفي باللبنانيين. عند لودريان يجري الحوار تحت مظلة الدول الخمس، وعند برّي تحت مظلة مجلس النواب.
مع ذلك رد الفعل السلبي المُقاطع لكلتيْهما اجتمع في فريق المعارضة المسيحية دونما ان يكون التيار الوطني الحر طرفاً فيها هذه المرة. ذلك ما اعاد أحجام قوى الانقسام الداخلي الى اقل مما كانت عليه عشية جلسة انتخاب الرئيس في 14 حزيران الفائت: الثنائي الشيعي وحلفاؤه في واد، والتيار الوطني الحر في واد، والاحزاب المسيحية والشخصيات المستقلة المعارضة في واد. بعد مبادرتيْ الحوار انتقل الحزب التقدمي الاشتراكي والنواب السنّة المتحفظون الى رابع الاودية.
على وفرة ما قيل منذ 31 آب في مبادرة رئيس البرلمان، ثمة ما يقال فيها وعنها ايضاً:
اوله، ان لا عودة الى جلسات انتخاب الرئيس على نحو ما حدث بين الجلسة الاولى والجلسة الثانية عشرة. لا الجلسة الثالثة عشرة او التي ستليها ستكون على صورة تيْنك الجلستين ان لم يسبق اياً منها حوار. لم تعد احجام فريقيْ جلسة 14 حزيران في حاجة اثباتات وبراهين جديدة ان كليْهما عاجز عن ايصال مرشحه بمفرده، ويملك في الوقت نفسه فيتو نصاب الثلثين، وأضفيا فوق ذلك طابعاً طائفياً على الاشتباك في مجلس النواب.
ثانيه، رامَ برّي تقديم مخرج للوصول الى انتخاب رئيس يراعي منطقيْن يتعارضان دستورياً ومبرران سياسياً: حوار قبل الانتخاب ام بعده؟ في ما تعهده – في معزل عن احتمال نجاح الحوار الذي اقترحه او فشله، ان يكون الفرصة الوحيدة لإحداث تغيير في المواقف: إما تقود الى اتفاق على الرئيس او يذهب الجميع الى جلسات انتخاب. مع ان الفرصة هذه تنطوي على ايجابية قد يكون مبالغاً بها، الا ان من غير المؤكد ان الذهاب الى جلسات متتالية في ظل الانقسام الداخلي الراهن نفسه سيفضي الى افضل مما حدث الى الآن في اثنتي عشرة جلسة. وقد لا يكون مؤكداً ايضاً ان اخفاق حوار مبادرة برّي سيخلّ بالتوازن الداخلي لمصلحة مرشح ثالث، او ان اياً من الفريقين سيتخلى عن مرشحه كي يفوز مرشح الطرف الآخر.
ثالثه، بماذا يفكر حزب الله وماذا يريد؟ تلك هي المعضلة الآن لا ما يقول به ويعلنه. لم يعد خافياً ان الحوار الذي يجريه مع التيار الوطني الحر يتقدم اي اهتمام سواه بما في ذلك انتخاب رئيس للجمهورية. يناقش ورئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل ملفات غير ذات صلة بانتخاب الرئيس من قريب او بعيد. كلف النائب علي فياض محاورة التيار في ملف اللامركزية الادارية والمالية الموسعة التي وافق الحزب اخيراً عليها تبعاً لما يتمسك به باسيل. المهم كذلك ان حزب الله لم يعد يتحدث في العلن على الاقل عن ترشيح الوزير السابق سليمان فرنجية على نحو ما فعل في الاشهر التالية لاشهاره ترشيحه له للاستحقاق في آذار 2023. لم يعد يتحدث كذلك بوفرة واطراء عن مرشحه ذاك على انه ضمانه ومصدر اطمئنانه الى رئاسة حليفة له.
مع انه ايّد مبادرة حليفه رئيس المجلس، بيد ان المعروف عن الحوار الذي ينادي به حزب الله، في معرض تشبثه بترشيح فرنجية والاصرار على انتخابه، اقرانه اياه بحوار موسع من حول المرحلة المقبلة في العهد الجديد. هو بذلك يدل على «مشروع» ما، ولا يكتفي باتخاذ موقف بتأييد المرشح.
رابعه، بات معلوماً بلا اي لبس ان ما يهتم به حزب الله في الوقت الحاضر محاولة استدراك اخطاء اربعة قد يكون ارتكبها، او فاته الانتباه اليها، او ربما قفزت من فوقه، الا انها في كل حال اربكته واحرجته اخيراً، وهو الآن يحتاج الى التخلص منها:
1 ـ تفكيك جبهة مسيحية عريضة نجمت عن ترشيحه فرنجية على نحو لم يكتفِ بتجميع الاحزاب المسيحية المناوئة له وقوى غير مسيحية كعدد من النواب السنّة والحزب التقدمي الاشتراكي في ظل رئيسه الجديد تيمور جنبلاط، بل ساهم في إبعاد حليفه التيار الوطني الحر عنه منذ كانون الاول 2022 الى غداة جلسة 14 حزيران 2023 لانتخاب الرئيس، انضم خلالها باسيل الى تكتل مناوئيْ فرنجية، الاعداء الفعليين لحزب الله. بات عليه اخيراً انتزاع «درة التاج»، التيار الوطني الحر، من ذلك الائتلاف العريض واعادة الحياة الى تحالفه معه.
2 ـ يحاذر حزب الله اتخاذه موقف المواجهة الداخلية مع افرقاء لبنانيين، بينهم المسيحي والدرزي والسنّي ممن لا يشاطرونه الرأي ووجهة النظر والخيار، وبعث الاعتقاد ان في وسعه حسم النزاع معهم بالقوة والعنف والتخويف باستخدام السلاح. هو الانطباع الشائع عنه المستند الى سوابق شتى لا تزال في الذاكرة، كاحداث ايار 2008 واحداث كانون الثاني 2011 بعد اسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري واحداث الطيونة في تشرين الاول 2022.
3 ـ محافظته على مرجعية ادارة البلاد مذ انتقلت اليه عام 2005 بعد مغادرة الجيش السوري لبنان. ما أعطته سوريا لنفسها في هذا البلد منذ اتفاق الطائف من تأثير ونفوذ واحكام قبضة انتقل اليه بكليته. هو الامتياز الاكثر فاعلية بين يديه، متيحاً له موازنة سطوته في مؤسسات النظام بقوة سلاح المقاومة على الارض. اضاف اليهما في انتخابات 2022 شقاً بالغ الفاعلية هو امساكه بالنواب الشيعة الـ27. من خلالهم، عندما يعترضون او يوافقون، تتحرك ماكنة النظام والمؤسسات او تتجمد.
4 ـ استعادته الاكثرية النيابية التي اشعرته بفقدانها اخيراً بعد افتراق التيار الوطني الحر عنه في الاستحقاق الرئاسي. كان عوّل على الحصول على غالبية مرجحة في الانتخابات النيابية السنة الفائتة بيد ان نتائجها خذلته. ضاعف في خذلانه انصراف باسيل عنه بسبب فرنجية. في الحوار الدائر بينهما منذ اشهر محاولة استعادة غالبية النصف زائداً واحداً. ثبتت هذا الاعتقاد ان الاصوات الـ51 التي حازها فرنجية في جلسة 14 حزيران تحتاج الى تعزيزها باعادة التيار الوطني الحر الى كنف تحالفهما، كي يرتفع الرقم الى ما بين 68 و72 صوتاً لا تأتي بفرنجية رئيساً حتماً، بيد انها تكرّس الغالبية النيابية في هذا الفريق.
بات من السهولة بمكان الاصغاء الى مَن في حزب الله يقول انه يتمسك باسترجاع الغالبية، سياسياً خصوصاً، دونما الحاجة بالضرورة في الوقت الحاضر الى الاتفاق مع الحليف العائد على مرشحه للرئاسة. المهم ان لا يعود الى حيث كان في 14 حزيران.