رواية خالد سامح المعنونة “بازار الفريسة”، تسترجع تاريخاً ماضياً يمتد أكثر من خمسة عقود. عقود تمحورت حول القضية الفلسطينية بين عمّان وبيروت، وارتباط ذلك كله مع الثورات وقاموسها، والسمسرة وفنونها، لغة الجسد وتعابيرها على اللسان، وتابوهات الثقافة العربية بما يخص حرية المرأة وعلاقتها بالرجل. وكل ذلك في مجتمع يفقد هويته المحلية ليندمج، شاء المرء أم أبى، بما يجري في العالم برمته.
فهي تسبح في عالم حيتان الفساد الذين نبتوا، وترعرعوا على هامش الثورة الفلسطينية، واستفادوا من تقلبات الظروف المحيطة بالقضية. وابرزهم رشيد، زوج بطلة الرواية هالة، التي يلاحقها الكاتب في حياتها اليومية، وخلال بحثها عن ماضي الزوج المتوفى حديثاً وتناولت الألسن سيرته غير النظيفة.
ورشيد هو المناضل السابق، والصحافي الذي تبين لاحقاً بوثائق توردها الرواية، علاقته بالسفارة الأميركية في عمان، وعمله لصالحها في نقل ما يجري داخل المجتمع الأردني أولاً، ثم الواقع الفلسطيني ثانياً. ورصد الكاتب في روايته الصادرة عن “المؤسسة العربية للدراسات والنشر”، بلغة سلسة، ونقلات أسلوبية بين الحوار، والوصف، والتداعيات الذهنية، والانتقالات المكانية، تحولات مدينة عمّان خلال أكثر من خمسين سنة، حيث هناك الفلسطينيون، والأردنيون، واللبنانيون، والعراقيون.
وكانت المدينة تشهد عبر الزمن ظواهر غريبة على تقاليدها مثل إدمان المخدرات، والكساد الثقافي، واختفاء الخطاب الثوري، ودور العراقيين الذي فروا بعد سقوط النظام واشتغلوا بالمقاولات والتجارة، والسياسة لاحقا. وحل محل ذلك فضائح الماضي، مثلما جرى لزوج هالة المناضل السابق رشيد، وتبينت علاقاته المشبوهة مع السفارة الأميركية. وكانت رواية الأحداث على لسان امرأة مات زوجها المعروف الذي كان ضمن المقاومة الفلسطينية في جمهورية الفاكهاني البيروتية، كما يسميها الراوي. كذلك حركة العاصمة اليومية، وشوارعها، وزحامها، وبصمتها التي طبعت سكانها.
وهنا نلتقي بشخصيات تتحرك ضمن ذلك المحيط الجديد. هالة، وهي كاتبة مسرحية ومهتمة بالفن، مسيحية من أصل لبناني قدمت مع زوجها إلى عمّان، ولديها ولدان أحدهما مدمن مخدرات يرقد في المستشفى، والآخر يعمل في دولة خليجية. صديقتها وفاء الفنانة التشكيلية، ابنة المدينة، المتفتحة، الحرّة، التي تجد حريتها في الرسم. وسامي صاحب المكتبة، وكان رفيق رشيد زوج هالة المتوفى، ومناضلاً أيضاً في بيروت وعمل في الصحافة.
يتنقل الراوي بين كل تلك الخيوط ليصنع لوحة بارزة لمدينة عمان، وبيروت كذلك، وما خط الزمن على تاريخهما من قفزات، وتحولات، وظواهر قاتلة أصبحت جزءاً من التاريخ الذي ينبغي إزاحة الغطاء عنه، وتأمله عميقا. ذلك للخروج من عنق الزجاجة الحضارية التي وجدت المجتمعات العربية نفسها محبوسة فيها.
ومنع الرقيب الأردني تداول الرواية، كما كتب الروائي في صفحته الفايسبوكية، بسبب لغتها الصريحة في ما يخص الجسد وتفصيل علاقة البطلة هالة مع زوجها المتوفى، وكيف تعرفت عليه في بيروت وضاجعها في بناية عتيقة. عدا عن اختلاف الدين بين زوجين.
***
منعت هيئة الإعلام توزيع الرواية، وجاء في بيان أصدره بعض المثقفين الأردنيين حول منع الرواية:
يدين الموقّعون أدناه قرار “هيئة الإعلام” في الأردن، والذي لم يصدر بكتاب رسميّ كما يفترض عادة بقرارات الهيئات الرسميّة، منع توزيع رواية الزميل الكاتب خالد سامح المجالي المسمّاة “بازار الفريسة”، بداعي احتوائها على “شتائم” كما قال مسؤولو الهيئة للكاتب، وهي الرواية التي تتناول بشكل دراميّ شخصيّة مشبوهة تتلقى دعمًا وتمويلًا خارجيًّا، ومن خلاله تبحث تدخلات وتأثيرات السفارات الأجنبيّة والمؤسسات المموّلة أجنبيًّا على قضايانا المحليّة والعربية، ومن ضمنها القضية الفلسطينية. ويؤكد الموقّعون على بديهيات يستدعي تكرارها هذا النوع من أنواع الرقابة التي عفى عنها الزمن، أولّها أن الكتابة بكل أنواعها، فكريّة أو بحثيّة أو أدبيّة، هي فعل حريّة كاملة، لا يجب أن تخضع لرقابة رقيب، بل عليها أن تتحرّر تمامًا منه، وبالمعنيين الموضوعيّ والذاتيّ؛ وثانيها أن الكتابة الأدبية الروائيّة والقصصيّة، هي كتابة متخيّلة، حتى ولو استندت إلى وقائع، أو استخدمت العالم الحقيقيّ وعناصره مسرحًا ومكوّنات لأحداثها، وما محاولة استنطاق هذا المتخيّل ليخدم رؤية رقيب بعينه سوى تعسّف مزدوج ينبغي محاسبة الرّقيب عليه، لا الكاتب؛ وثالثها أن الشتائم الواردة في الرواية هي جزء يوميّ من حياتنا اليومية التي نعرفها جميعًا، ونسمعها في عديد الأماكن، بل ونستخدمها نحن أنفسنا أحيانًا، ومن المضحك المبكي أن تُمنع رواية لأن شخصيّة من شخصيّاتها قد استخدمتها في موقعها كما قد تستخدم في حياتنا اليومية، وانعكاسًا لهذه الحياة اليوميّة.