رضوان السيد – أساس ميديا
إذا كان نصف الكلام، الذي قيل على لسان القاضي البيطار، صحيحَ النسبة، يكون الرجل شعبويّاً “بحقٍّ وحقيق”. والذي أقصده أنّ الطبقة السياسية اللبنانية ليست حسنة السمعة و”جسمها لبّيس” كما يقال، ولذلك يفرح الجمهور بكلّ ما يمسُّ بها سمعةً أو واقعاً. إنّما إذا لم يكن المرء غوغائيّاً بالفعل، فليس من الضروريّ أن يكون هذا الوزير أو ذاك أو هذا المدير أو ذاك مشاركاً بالأصالة أو بالوكالة في تفجير المرفأ. لكنّ الناس فرحوا كأنّما صارت أسباب الجريمة واضحة، وقبض القاضي على المتلبّسين. وما حدث شيءٌ من ذلك بالطبع، لكنّها شماتةُ الناس بالسياسيّين الذين وضعهم القاضي الجليل في قفص الاتّهام.
المسؤولية المباشرة في المعرفة وفي المتابعة تقع منذ البداية على ثلاث جهات: القضاة الذين احتجزوا السفينة، ثمّ أمروا بإنزال الحمولة المتفجّرة منها، والجمارك التي تشرف على العنبر أو العنابر، والأمنيّون: استخبارات الجيش والأمن العامّ وأمن الدولة
والأمر الآخر غير الشعبويّة للمزيد من لعن الطبقة السياسية، هذا الاستسهال الكلّيّ للاتّهام. وبدون ذكر الأسماء، أحد “المتّهمين” أتته رسالة في الموضوع عام 2014، وفيها أنّ القضاء وضع يده على السفينة المحمّلة بنترات الأمونيوم والذاهبة إلى موزامبيق(!) لأنّ واحداً من أصحاب “الحقوق”(!) ادّعى، والقاضي بحسب الرسالة مهمومٌ لأنّ البحّارة لا يحصلون على أجورهم، وكذلك قائد السفينة، وأنّهم يجوعون… فبحسب الرسالة النترات لا تزال في مخازن السفينة، وهي في يد القضاء، فلماذا يكون على متلقّي الرسالة قبل سبع سنوات، أن يستشرف احتمالية حصول التفجير(!) والنترات لا تزال في مخازن السفينة، وهي على وشك المغادرة(!). لكي يصبح الوزير آنذاك مستحقّاً للسؤال عن هذا “الاحتمال”، ينبغي أن تكون النترات قد صارت على أرض المرفأ على الأقلّ.
والأمر الثالث هذه “الانتقائيّة” الصاعقة: فلان وفلان وفلان يجب أن يعرفوا ويتوقّعوا قبل سبع سنوات (!)، أمّا فلان وفلان وفلان وفلان.. إلخ، وقد كانوا في مواقع المسؤولية طوال ثلاث أو أربع سنوات قبل التفجير، فهم لا يعرفون شيئاً، وبالتالي غير مسؤولين! لماذا يعرف قهوجي ولا يعرف عون بزعم أنّ مسؤول الاستخبارات في المرفأ لم يخبره، ولذلك فهو مسجون! لكنّ هناك مديريْن سابقيْن للاستخبارات، فهل أخبرا أم لا؟ وفي الحالتين، لماذا لا يُسألان؟! ونستطيع أن نذكر عشرات آخرين ما سُئلوا ولا اتُّهِموا بشيء، في حين اُستُدعِي آخرون واتُّهِموا من دون أن يُسألوا.
فالأمر الثالث إذن هو أمر الانتقائية. وإلاّ فالأقرب إلى “احتمال” المسؤولية هم القضاة الذين أمروا بإنزال النترات ووضعها في العنبر رقم 12 تحت الحراسة القضائية. وما هي هذه الحراسة القضائية، وشأنها مثل شأن: “شاهد ما شفش حاجة”!
والطريف هو موقف وزير الداخلية الحالي الذي قال إنّه لن يأذن بجلب مدير الأمن العام إلى القضاء. وبالفعل، لا اتّهام بدون تحقيق وأدلّة، فإنّ المسؤولية المباشرة في المعرفة وفي المتابعة تقع منذ البداية على ثلاث جهات: القضاة الذين احتجزوا السفينة، ثمّ أمروا بإنزال الحمولة المتفجّرة منها، والجمارك التي تشرف على العنبر أو العنابر، والأمنيّون: استخبارات الجيش والأمن العامّ وأمن الدولة. وهؤلاء جميعاً أصحاب سلطة وليسوا مجرّد كَتَبة تقارير.
كلّ ذلك يحتاج إلى تحقيقات دقيقة بعيداً عن متناول التسييس أو الشعبويّات أو أوهام اندفاعات الرأي العامّ.
رئيس الجمهورية، الذي كان قائداً للجيش، وهو صاحب الكلمة الفصل في استخباراته وعمليّاته، علم بوجود النترات قبل 34 يوماً على الأقلّ، وكذلك رئيس الحكومة، واعتذر بعد التفجير بأنّه ليس عنده صلاحيّات، فيما هو يجمع مجلس الدفاع الأعلى ويتّخذ القرارات لأمورٍ وأمورٍ ليس لها أدنى علاقة بأمن البلاد
وقبل التحقيق وبعده يظلّ الأمران الأساسيّان: بدايات الأمر من جهة، ونهاياته من جهة ثانية. فقد اشترى المادّةَ المتفجّرة “رجالُ أعمال” تابعون للنظام السوري، وأوصلوها عمداً إلى مرفأ بيروت، وتجاهلت أو تعاونت السلطات الثلاث المذكورة (القضاء والجمارك والأمنيّون)، بحيث أُنزِلت وخُزِّنت في العنبر رقم 12. ثمّ سمح الأمنيّون بإخراج 1500 طنٍّ منها خلال سنوات إلى سورية في الأغلب الأعمّ. ولا شكّ أنّ المسؤوليّة تتناول الجهات الثلاث بقوّة، ومن ورائهم الجهات السياسية التي يتبعون لها مباشرة.
ويبقى الجزء الأهمّ من “المآلات”، وهو تفجير الخمسمائة طن الباقية بعدما لم تعُد للنظام السوري وولاة أمره في لبنان حاجة إليها: مَن الذي قام بذلك أو كيف تمّ، وبخاصّةٍ أنّ التفجير ما تسبّب في جرائم هائلة ودمار فظيع فقط، بل وتسبّب أيضاً في كشف العمليّة منذ بداياتها ضدّ أمن الشعبيْن السوري واللبناني.
يتحدّثون في التفجير عن أحد ثلاثة احتمالات: الإهمال أو التلحيم أو… إسرائيل! والاحتمالان الأوّلان يزيدان من مسؤولية الجهات الثلاث التي ذكرنا، القضاة والجمارك والأمنيّين. أمّا الاحتمال الإسرائيليّ فيزيد من مسؤولية الجهات السياسية والعسكرية، وهي بالدرجة الأولى حزب الله وقيادة الجيش ورئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة، هكذا على التوالي: فمنذ أكثر من عامين يشير الصهاينة إلى سيطرة الحزب على المطار والمرفأ، ويهدّدون ويتوعّدون، ولا ننسى المسرحية التي قام بها جبران باسيل لتبرئة الحزب من تخزين الصواريخ من حول المطار(!). وقد ضربت إسرئيل، كما نعرف، في بيروت وفي الجنوب، مراكزَ للحزب، ولكن ليس دائماً بالصواريخ أو بالقصف بالطائرات، بل وأيضاً بالتخريب الداخلي، كما تفعل في إيران، وأحياناً في سورية. يعرف الحزب، وتعرف استخبارات الجيش (وإن بشكلٍ أقلّ!) بالتتبّع الإسرائيلي الدقيق لكلّ ما يجري على الأرض اللبنانية، ومن بينه ما يأتي إلى المرفأ وما يخرج منه، ويتضمّنان شاحنات البنزين، وشاحنات النترات. رئيس الجمهورية، الذي كان قائداً للجيش، وهو صاحب الكلمة الفصل في استخباراته وعمليّاته، علم بوجود النترات قبل 34 يوماً على الأقلّ، وكذلك رئيس الحكومة، واعتذر بعد التفجير بأنّه ليس عنده صلاحيّات، فيما هو يجمع مجلس الدفاع الأعلى ويتّخذ القرارات لأمورٍ وأمورٍ ليس لها أدنى علاقة بأمن البلاد. إنّما قبل رئيس الجمهورية (الذي قال لنا دائماً إنّ جمهوريّته محتاجة إلى سلاح الحزب لأنّ الجيش ضعيف!): أين كان الحزب، وبخاصّةٍ أنّ الإسرائيليين يحذّرونه كلّ الوقت أنّهم يعرفون بتخزينه للسلاح هنا وهناك، وفي المطار والمرفأ؟!
كلّ هذه أسئلةٌ لن تُسأل: لن يُسأل الحزب ولن يُسأل الرئيس ولن تُسأل استخبارات الجيش. ولِمَن نسي فإنّ زعيم الحزب تحدّى، في أحد خطاباته، قيادة الجيش أن تُصدر تقريرها عمّا تعرفه! وأنا أنصح الطرفين، استخبارات الجيش واستخبارات الحزب، أن يتجمّعوا عند صديقهم رئيس الجمهورية، ويُصدروا تقريراً مشتركاً عن الوقائع والمسؤوليّات، أو سيبقى انفجار المرفأ إهمالاً مقيتاً، والأمنيّون أبطالاً، وسيكون المدانون فقط هم السياسيين الذين في الغالب كان كلّهم أو معظمهم آخر مَن عرف، وبعد الحزب والجيش والاستخبارات والنظام السوري بكثير! ويرضى القتيلُ وليس يرضى القاتلُ!