هيام القصبفي – الأخبار
مع تغير وجهة المبادرة الفرنسية من تأليف الحكومة الى الضغط لإجراء الانتخابات، تحاول باريس الاستعانة بجملة بدائل، هي أقل من خطة عمل متكاملة. واستقبال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للعماد جوزف عون، يصبّ في إطار استثمار الجيش في حالتي الاستقرار والانهيار
لا يخرج التحرك الفرنسي عن الإطار الإقليمي والدولي العام. فما حصل منذ عهد الرئيس الاميركي دونالد ترامب حتى اليوم، حقق «هدفه»، بالمعنى الاميركي والغربي. انهيار الطبقة السياسية، وشبهات الفساد والعقوبات تنعكس تضييقاً بات أشبه بالحصار على الطبقة السياسية والمالية في لبنان، إضافة إلى انكشاف فضائحها علانية أمام الرأي العام الدولي، كلها كانت من نتائج الضغط الذي مارسته إدارة ترامب بطريقة غير مسبوقة. ومقاربة ترامب للبنان، وتحديداً عبر الضغط على حزب الله، لم تشبه بشيء حتى مقاربته لسوريا. لكن مجيء إدارة الرئيس جو بايدن قلبت الأوضاع. فالإدارة الجديدة لم تقر بعد أي رؤية أميركية للبنان، لأن الملف الوحيد الذي يعنيها ولا يزال هو ترسيم الحدود البحرية. وهذه اللامبالاة، ما عدا بضع رسائل ديبلوماسية هامشية، تجد مثيلاً لها في انكفاء الدور السعودي. ولولا أن باريس تحاول بشتى الطرق استدراج الرياض الى نقطة التقاء، لكان ملف بيروت غير موجود على طاولة صناعة القرار فيها.
في ظل انحسار هذين الدورين المؤثرين عادة، تصبح أي خطوة فرنسية محط اهتمام، خصوصاً بعد فشل مبادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. من الصعب التعامل مع استقبال الرئيس الفرنسي لقائد الجيش، في ما يشبه السابقة، على أنه اهتمام – منزّه عن أي غاية – بالجيش وتقديم المساعدات له، اذ لم تُبد فرنسا هذا الحرص حين قدمت السعودية هبة الثلاثة مليارات دولار، فسارعت باريس الى استثمارها في الشركات الفرنسية، فضاع الملف في وساطات وتحايلات، قبل أن تطير الهبة، ولم يستفِد الجيش اللبناني الا باليسير منها. حينها كانت باريس تغلب مصالح شركاتها على مصالح الجيش اللبناني، لا بل إن صواريخ «ميلان» المعدودة التي وصلت الى الجيش حينها أثيرت حولها ضجة بعدما كانت تفيض عن الميليشيات أيام الحرب.
ما يقلق ليس محصوراً في أن تضاعف فرنسا، بمغامرتها الجديدة، النكسات
اليوم، بعد فشل تحرك ماكرون، تعمل باريس على مخطط ثان بدأ بالضغط لإجراء الانتخابات في موعدها، والدفع فرنسياً – ومن ثم أوروبياً – لتشجيع أو استحداث «قوى تغييرية» إلى خوض الانتخابات، واستكمل بالإعداد لزيارة قائد الجيش من ضمن السيناريو ذاته. ففرنسا تريد – ومِن خلفها جَوّ أوروربي عام – الضغط لتأمين الاستقرار حتى يحين موعد الانتخابات. وهذا الاستقرار في ظل غياب أي تدخل دولي أو إقليمي لإيجاد حلول ولو ظرفية، يؤمّنه الجيش الى أن يتبلور مسار الحكومة وهويتها الجديدة. كذلك فإن حرص باريس على صيانة الاستقرار وتأمين الاستحقاق النيابي، يستلزم ألا يتأثر وضع الجيش داخلياً في الاختلافات السياسية الحالية، إضافة الى عدم انحلاله تحت وطأة الضغوط المالية والمعيشية التي يعيشها عناصره. فهي سابقة أن «يستعطي» جيش المأكل والمشرب والأموال النقدية من الدول لمساعدته، حين تنهار رواتب عناصره ويعجز عن تأمين الحد الأدنى لهم، قبل الكلام عن شفافية المسلك الذي ستصرف فيه الأموال والى أي فئة من المؤسسة العسكرية ستذهب. وتسير باريس في خطين متوازيين في رؤيتها لدور الجيش: الأول، الوضع الداخلي حتى يحين موعد الانتخابات، إذا وقع انهيار شامل – بعد تعثّر الترتيبات الإقليمية – بطريقة لا يمكن لجمها. والأمر الثاني، الاستثمار فيه، إذا ما تبلورت طروحات سياسية على شكل حكومات يكون فيها للجيش حيثية ما. ما آل إليه التصور الفرنسي هو تحويل الجيش «أداة تنفيذية»، في مسار جديد تحاول فرنسا استخدامه لأول مرة بهذا الوضوح فيه، بعد أن وصلت الى طريق مسدود مع القوى السياسية، التي قد لا ترتاح الى هذه الطريقة المستحدثة في التعامل مع الجيش. ما يقلق ليس محصوراً في أن تضاعف فرنسا – بمغامرتها الجديدة – النكسات التي حصلت حتى الآن على طريق مبادرتها التي تنتقل من فشل إلى آخر، بل أن تُدخل الجيش معها في متاهات ومغامرات بدأت تباشيرها تلوح مبكراً منذ أشهر.