شعار ناشطون

المقهى الشعبي من الذكورية إلى الحداثة من مقهى البحصة عند ضفة أبو علي إلى نشأة التل العليا والسينما الصيفية

15/11/22 08:34 am

<span dir="ltr">15/11/22 08:34 am</span>

ليلى دندشي

إمتاز المقهى الشعبي منذ نشأته الأولى في طرابلس بالذكورية تماما كما كانت الحال في ما بعد بالنسبة لنشأة السينما والمسرح والملهى داخل المدينة القديمة وخارجها، وقد حافظ على ذكوريته لعقود وقرون طويلة قبل أن تطرأ عليه مظاهر “الإختلاط” الإجتماعي ويرتاده الجميع ذكورا وإناثا في مراحل لاحقة.

ويقول الكاتب صفوح منجد في كتابه “طرابلس ذاكرة المكان والزمان” أن المقهى أو “القهوة” بالتعبير الشعبي وبتخفيف القاف وتحويلها إلى “ألف” لتصبح اللفظة “الأهوة” هو مظهر أو موقع إجتماعي نشأ مع تطور المدينة المملوكية القديمة والتي ما تزال قائمة إلى اليوم مع معظم تفاصيلها ومخططاتها وتجمعاتها والتي تضاهي بحق المدينة المملوكية الأولى في التاريخ أي القاهرة، وتعتبر الثانية بعد العاصمة المصرية بأحيائها الشعبية القديمة ومكوناتها من حيث المساجد والحمامات والخانات والكتاتيب وسواها من مققومات المدينة العربية القديمة.

ويعود تاريخ وجود المقهى في طرابلس وإنتشاره في الأحياء الشعبية إلى الحقبة التي إنتشر فيها تناول القهوة والتلذذ بإرتشافها وإعتبارها العنصر الأول في الضيافة سواء في المنزل أو خارجه. حيث أخذ الناس والتجار منهم وأصحاب المهن يتناولونها داخل الحوانيت والدكاكين ويقدمونها لضيوفهم وللزبائن ولذلك إمتهن بعض الأشخاص وعرفوا ب” قهوجية” ويجول الواحد منهم الحي الشعبي أو المنطقة جيئة وذهابا ويحمل بكل يد “مصب” القهوة وهو إناء نحاسي مزخرف تتوسطه من الأعلى إلى الاسفل قسطل رفيع للفحم المشتعل بغية الإبقاء على القهوة ساخنة، كما يحمل وعاءين صغيرين أحدهما للفحم والآخر لفناجين القهوة التي عرفت ب “الشفة” أي تلك التي لا “مسكة” أو “أذنا” لها كما هي الحال مثلا في فناجين الشاي.

مقهى البحصة

يعتبر مقهى “البحصة” من أشهر مقاهي طرابلس عامة ومجتمع النهر خاصة يفصل بينه وبين النهر مباشرة طريق مرصوف بالحجارة الكلسية الكبيرة، عرض الطريق حوالي 10 أمتار وكان من أجمل الطرقات في طرابلس (قبل إزالة المعالم القديمة للنهر وتحويل مجراه إلى قناة ضخمة مكشوفة مبنية بالإسمنت المسلّح فغابت الأشجار والمزروعات وحتى الأسماك النهرية وتحول إلى مستنقع).

ومقهى البحصة، والإسم مشتق من كثافة البحص عند شاطىء النهر في تلك المحلة، له نظامان صيفي وشتائي، فالمقهى الصيفي كان حديقة واسعة تظللها الأشجار وبالذات الكينا والفلفل (إنقرض من طرابلس) لها مزايا الرائحة في الورق والثمر، كما إشتهرت حديقة المقهى بورودها ونباتاتها الدائمة أو الموسمية، ومن الدائمة: الورد والياسمين والتمر حنّة، ومن الموسمية: الأضاليا والزنبق بعدّة ألوان. وللمقهى مصلّى في منتصف جهته الشرقية ويرتفع حوالي متر عن الأرض ويُصعد إليه بثلاث درجات وله وظيفة ثانية إذ يستخدم كمسرح صيفي أحيانا (كما جاء على لسان بعض أبناء المحلة قبل الطوفة).

والطاولات المنتشرة في أرجاء الحديقة هي من الحديد المشغول باليد وسطحها من الرخام الموزييك الملون والكراسي من خيزران دمشق. أما المشروبات صيفا: قهوة وزهورات وشاي وشرابات عصير الليمون المعروف بالليموناضة والتمر هندي، وفي ما بعد حلّت إلى جانبها المشروبات الغازية. ومن تقديمات المقهى التي إختص بها وإشتهر هي “النارجيلة”. ودوام المقهى كل نهار وجزء من الليل حتى موعد صلاة العشاء. ومن العابه: طاولة الزهر والدومينو وورق اللعب (الشدّة). أما المقهى الشتوي فمبناه يحتوي مسرحا واسعا وكواليسه كناية عن مغارة كبيرة قسمت إلى غرف داخلية وقد إستقدم فرقا عربية مسرحية وغنائية.

وللمقهى حكواتي يعمل أثناء فصل الصيف وليالي شهر رمضان ومن أشهر قصصه عنترة بن شداد والزير سالم، أبو زيد الهلالي، الملك سيف بن ذي يزن ومغامراته مع الجن، والملك الضاهر بيبرس وحروبه مع الصليبيين. وإلى جانب الحكواتي هناك “الراوي” وهو يروي القصص التاريخية والإسلامية وعادة يكون شخصية متقدمة في العمر يقص رحلاته ومغامراته التي خاضها. وهو شخصية محلية نابعة من مجتمع النهر بينما الحكواتي قد يكون شخصية متنقلة بين مقاهي طرابلس عموما.
وإشتهر في المنطقة أيضا مقهى”خبيني”، مقهى “جهير”، مقهى “الصيادين”، مقهى “الدباغة”.

مقهى وسينما التل العليا

في الربع الأخير من القرن التاسع عشر إستفادت طرابلس من التحديثات العثمانية التي شملت الدستور والقوانين ومقومات الدولة المركزية والولايات الخاضعة لسلطتها، وكذلك النواحي الإجتماعية والإقتصادية والعمرانية، حيث عمدت السلطات العثمانية إلى إنشاء المباني الحكومية خارج إطار المدينة القديمة وتحديدا في منطقة التل عند واجهتها الغربية، فأقيمت السراي ومبنى الشرطة وإستتبع ذلك محطة الترامواي الذي كانت تجره البغال وفروع مصرفية وتجارية محلية وأجنبية، والمباني السكنية المؤلفة من عدة طوابق تلبيىة لرغبة بعض الوجهاء وأبناء الطبقات التجارية والغنية في مغادرة حارات المدينة القديمة والإقامة في منازل أكثر حداثة.

والتل في تلك الآونة ساحة لقاء على مستويات عدّة تشتمل على أمكنة مختلفة ومتفاوتة ومتقاطعة ومتفارقة، مثل المقهى والمسرح والسينما والملهى والكازينو وأيضا المطعم والفندق.

وبدا المقهى العثماني في تلك الفترة القاسم المشترك الأكبر بين هذه الأمكنة. ولو ميزنا بين المقهى الشعبي الداخلي (المقهى- الدكان) ومقهى التل (المقهى- البستان أو الحديقة) لوجدنا الأول يكاد يقتصر على التقديمات من قهوة ونرجيلة وحكواتي، بينما الثاني يرتبط بالحديقة سواء كانت بجانبه (مقهى فهيم) أو تشغل حيزا منه أو يشغل حيزا منها (مقهى التل العليا) أو مقهى(بيكاديللي- ماريات باشا) فوق كراج زغرتا، وتتعدد وظائف هذا المقهى أو ذاك مع مطلع الحداثة، فهو لألعاب التسلية أو لعقد الإجتماعات العامة ولقاءات السياسيين كما هو الحال مع (مقهى التل العليا).

وينقسم هذا المقهى إلى حديقة أو بستان تشغله العائلات ذكورا وإناثا وعندما إستقلت الفروع الأخرى (المطعم والسينما والملهى) أخذ مقهى التل هويته النهائية التي قلما وجدت في غير مقاهي التل كمقهى فهيم مثلا. وكان لمقهى التل لغته الإجتماعية الخاصة، فالمعاصر للعهد العثماني حافظ على تقاليده وأعرافه ومنها تسمية التقديمات بالتركي، ويقف النادل وسط المقهى ويعدد طلبات الزبائن بصوت عال فيستجيب جهاز المطبخ بآلية سريعة لتجهيزها وللمناداة على النادل حيث يكتفي أحيانا بالتصفيق للدلالة على أن النرجيلة باتت معدّة، ومن التقاليد منع تناول النبريش من فم لآخر دون “تلويح” مبسمه بالنار.
وهذا المقهى سرعان ما أصبح عائليا ونسويا ومكان لقاء يرتبط بإنتظار سيارة الأجرة للإنتقال إلى خارج طرابلس.

ومع إنتشار دور السينما في المدينة إتخذ القائمون على مقهى التل العليا قرارا كان له الصدى الإيجابي لاسيما في أوساط العائلات الطرابلسية المحافظة، حيث تم تخصيص جناح واسع من أرض المقهى وتحويله إلى سينما صيفية كانت تعرض أفلامها العربية – المصرية وبصورة خاصة خلال فصل الصيف لتفادي الأمطار، وكان العرض يبدأ تحديدا في ساعات المساء بعد صلاة العشاء وإستمرت هذه السينما الصيفية في عروضها حتى بداية حرب السنتين حيث توقفت.

ولكن في صيف العام المنصرم وفي إطار تحضيرات المجلس الثقافي للبنان الشمالي للإحتفال بإختيار طرابلس عاصمة للثقافة العربية إتفق رئيس المجلس صفوح منجد مع أحد المشرفين على إدارة المقهى الحاج محمود عابدين بإستعادة ألق تلك الليالي الفنية الرائعة التي إعتادت طرابلس على تمضيتها في مقهى التل العليا أثناء فصل الصيف وحضور الأفلام العربية التي كان لها الدور البارز في نهضة السينما المصرية والعربية عموما، حيث تم عرض فيلمين هما “غزل البنات” و” الوردة البيضاء”.

تابعنا عبر