كتبت نوال نصر في “نداء الوطن”:
365 يوماً مضروبة باثنين مضروبة بكل أنواع الوجع والقلق والبؤس والقهر واللوعة والغضب والإشتياق و… الملل. ملّ الناس من انتظار صدور قرار ظني يضع النقاط على أحرفٍ كثيرة مجبولة بدماء ضحايا 4 آب النقية. والملل كما النعاس الروحي، كما الموت قبل الموت، كما الجمود القاتل. فمَن المسؤول؟ مَن يتحمل وزر وجع أهالي الضحايا مضاعفاً وأهالي الموقوفين مضاعفاً والدماء الغزيرة، كما الشلال، التي نزفت في الرابع من آب ذاك؟ هل هو ذنب قاضي التحقيق طارق البيطار أم الهاربون من وجه العدالة أم «السيستام» الذي يتيح إرجاء تطبيق العدالة بحجج قانونية مريبة وحصانات واهية تافهة؟ 4 آب 2022 على مسافة يومين وساعات معدودة… فلنقرأ في آخر المعطيات التي قد تُحدد لنا الإتجاهات والمسالك في تفجير استحقّ مقولة: هذا ما فعلته دولتي بي.
أن نبحث عن آخر المعطيات في تفجيرٍ بعثر حنايا عاصمة وشلّع أجساداً ودمّر أسراً وعاثّ خراباً وترك في العيون، عيون اللبنانيين، تلك اللمعة الحزينة الظاهرة، الراسخة، في البؤبؤين، كما الهوية، كما الإنتماء، معناه أن نتّجه حتماً وحكماً الى السؤال عن قاضي التحقيق طارق البيطار. فهل من يعرف عنه شيئاً؟
مضت سبعة اشهر على تعليق عمل «الريّس البيطار». هي أشهر سبعة أشبه بدهرٍ بالنسبة الى كثيرين، بالكاد خرج فيها القاضي من منزله، بحسبِ عارفيه، مرات قليلة لا يزيد عددها على أصابع اليدّ الواحدة، بينها مرتان فقط توجه فيهما الى عيدمون حيث بلدته وأهله وجذوره. هو يشعر «مثل التلميذ يلي حاسس إنو مش مخلّص درسو» أن عليه الإنكباب على الدرس الى حين يأتي الإمتحان. هناك من سأله: هل نجحوا في استبعادك؟ فأجابه: «لا، لا أحد سينجح في استبعادي أو دفعي الى التنحي. هم استخدموا دعاوى الردّ لمنعي من المتابعة لكنها، بغالبيتها، إستنسابية ومسيّسة. فلو كان عليّ أي شيء لكان القضاء «شالني».
عرف طارق البيطار منذ البداية أنه سيواجه الكثير من العراقيل وهو من صنف الرجال الذين لا يقررون «النفاذ بجلدهم» والهروب كلما ظهرت «عرقولة». لهذا يمكن تجديد القول بأنه باقٍ باقٍ باقٍ».
مشكلتنا الأساسيّة محاولة البعض تناتش التحقيق، كلّ في مصلحته، مع إضفاء عناوين براقة عريضة واخرى فرعية من أجل العبث بالتحقيق. هذا ما يفعله كثيرون اما هو فما زال يقول: «إختياري لهذا الملف بالذات وكأنه اختيار إلهي. فهو طُرح عليّ مرتين، لذا شعرتُ بالمسؤولية، بمشيئة الربّ، في موضوع إنسانيّ كبير، بحجم وطن. فاتكلت على الله وحده ومضيتُ، وأنا الآتي بلا أيّ مرجعية سياسية وبعيد كل البعد عن كل أجهزة الدولة العسكرية والأمنية، من أولها الى آخرها، وأتحدى أن يقف أحدهم ويقول ان لديه ارتباط بي او يعرفني. هذا ليس معناه أن كل السياسيين والعسكريين سيّئون، كما ليس جميع القضاة نزيهين وأوادم، غير أنني بطبعي لا أحب العلاقة معهم. بيتي هو بيت القضاء وحده».
عارفو القاضي البيطار يتذكرون كلّ حرف قاله ويثقون به «فهو يتمتع بالثقة بالنفس وبمهارة قضائية عالية. ومن يتحلى بالإثنتين كما الجيش الذي لا يُقهر». وينقلون عنه «أنه، على عكس كل الإشاعات، لم يحدد موعداً – «دات»- معيناً لإعلان القرار الظني لأنه كان عالماً منذ البدء أن مهمته لن تكون سهلة أبداً وأن التفجير الذي حصل ليس بسيطا أبدا «فانفجار تولوز، على سبيل المثال، إستغرق التحقيق فيه عشرة أعوام مع العلم أن الدولة الفرنسية كانت واضعة كل جهدها فيه». لهذا كان عالماً أن التحقيق في تفجير المرفأ ليس مجرد حادث سير وسيأخذ الكثير من الوقت، وهو لم يعمل واقعياً فيه إلا ستة أشهر فقط، خصوصاً أنه يتضمن قصصاً إقليمية ودولية واستنابات خارجية «بدنا» أجوبة عليها من الخارج بالإضافة الى عراقيل لا تُعد ولا تحصى من الداخل».
كثيرون يلومون قاضي التحقيق لتأخره في إصدار القرار الظني أما هو فينقل عنه عارفوه قوله «كيف يمكنني إصدار قرار ظني وأنا ممنوع من استكمال التحقيق، كما الطبيب الذي عليه أن يعالج مريضاً في المستشفى ويقطعون طريق وصوله إليها». فدعاوى الردّ هطلت عليه من «فجّ وغميق» وأدت الى إيقاف التحقيق ومنعه من القيام بأي إجراء أو اتخاذ اي قرار والمضي به. فالتحقيق يتطلب الإستجواب وجمع الأدلة وتجميع الإستنابات وهم عرقلوا كل ذلك. ويحتاج إصدار القرار الظني ايضاً الى إعلان قرار إختتام التحقيق وإرساله الى النيابة العامة وتنظيم مطالعة اسمها «مطالعة بالأساس» تقرأ فيها النيابة العامة كل الملف وتبدي رأيها». وهذا كله لم يحصل، ويطلّ من يطالب بأن يصدر طارق البيطار قراره الظني! فعن أي قرار يتحدثون؟
من يطالب قاضي التحقيق بإصدار قراره الظني إنما يريد إستهدافه مباشرة وتصوير علّة التأخير فيه، غير مبالٍ بكلّ التفاصيل الأخرى. وهو، حين تمت مراجعته بذلك قال «هل يمكنني ذلك إذا قررت إصداره الآن؟ هل يمكنني إعلان القرار الظني بيدين مكفوفتين وقبل أن تصدر النيابة العامة مطالعتها؟ تلك المطالعة جوهرية وإلا اعتبر القرار باطلا».
أهالي الموقوفين يطالبونه أيضا بإصدار قرار إطلاق أقاربهم وهو يجيب هؤلاء بالقول «حين تسلمتُ الملف أطلقت سبيل تسعة موقوفين، ولم أجب على أحد، ولنفترض أنني أريد إطلاق سبيل آخرين فهل يمكنني ذلك الآن بيدين مكفوفتين؟ بالطبع لا» لذا كل الكلام الذي نسمعه هو مجرد تصويب خاطئ على قاضي التحقيق لتصويره ظالماً يحتجز الناس وكسلان ويتأخر بإصدار القرار الظني الإتهامي. وهو إذا اصدر أي قرار بذلك الآن يطير من موقعه ويحاسب قانونياً. أمرٌ آخر يُنقل عنه عبر أهالي الموقوفين وهو قوله لهم «إن الموقوفين مظلومون» وهذا غير صحيح أبداً و»مسخرة» فهو حين التقاهم قال لهم بالحرف «يمكن أن يكون بين اولادكم أوادم ويمكن لا لكنهم إرتكبوا، في مطارحهم وصلاحياتهم، أخطاء جسيمة» وينقل عنه قوله «القاضي لا يقول عن أحد هذا مظلوم وهذا لا وإذا فعل ذلك يطير من التحقيق».
خزعبلات كثيرة تحصل في الملف الأكبر ربما منذ وجد لبنان. وقاضي التحقيق كان مدركا منذ البدء «أن لا أحد معه ولا أحد يدعمه ولا ولن يتكل على احد باستثناء القانون والمؤسسة القضائية». وهو يشكو في مجالسه من «مجلس القضاء الأعلى الذي لم يصدر أي قرار حول كل التجاذبات التي مرّ فيها هذا الملف ويواجهها طارق البيطار وكأنه ضابط ذهب الى الحرب ليقاوم المعتدين وقطعوا عنه الإمدادات وهو في قلب المعركة». .
لن يترك طارق البيطار التحقيق. هو لم يعتد ذلك ولن يفعل. ويُنقل عنه قوله «لا يمكن لأيِّ قاض أن يترك تحقيقاً يقوم به كما لا يمكن لأيِّ طرف أن يقول على ذوقه: خلص التحقيق. وحين ينتهي هو منه وحده يقول: إنتهيت وهذا قراري الظني».
أمور أخرى كثيرة لا يتطرق إليها من يطالبون بإعلان القرار الظني الآن وهو «أن لا ميزانية للتحقيق ولا حتى «ترجمان» ولا ماكينات تصوير ولا حتى أوراق A4 ولا آلية للصرف واضحة. وهو، في خضمّ كل ذلك، كمن وضعوه في قلب المعركة وقالوا له «دبّر راسك» ويرجمونه بالحجارة وبنعوت: المسيّس الإستنسابي الظالم. وهذا صعب جداً على قاض يتكل فقط على الحقّ وضميره».
كل الموقوفين حالياً في ملف تفجير المرفأ واجههم القاضي طارق البيطار «وأقل واحد منهم دامت مواجهته أكثر من سبع ساعات». كان يعمل من الفجر حتى آخر الليل معتمدا مقولة «صوت الأعمال أقوى من صوت الكلام». هو أصلا لا يعرف شخصياً أيّ من الموقوفين ولا يكنّ أي حقد على أحد. هو يُحقق في قضية كبيرة والعدالة همّه. يُلام البيطار بحجة انه استثنى المؤسسة العسكرية والقضاة من تحقيقاته أما هو فيُنقل عنه قوله «هذا غير صحيح أبداً فأنا إدعيت على قائد الجيش السابق جان قهوجي واستجوبته وعلى اثنين من مديرية المخابرات وطالبتُ بملاحقة مدير عام الأمن العام لكنهم اصروا على التشكيك بالقول إنني لم أستدع قائد الجيش الحالي. فلماذا أفعل ذلك إذا كنت قد تيقنتُ ان لا شيء ثابتاً عليه ولم تصله أي من الإتصالات والمراسلات في الموضوع. فلماذا أزج بأسماءٍ لا ذنب لها. فهل يريدونني أن أتصرف على أهوائهم أم بحسب المعطيات الثابتة التي بين يديّ».
هو حوّل أيضا ثلاثة قضاة بموجب المادة 17 من أصول المحاكمات، بينهم القاضي غسان خوري، وكان مطلوباً إستدعاء مدعي عام التمييز لكن ما حصل أنه تمّ حفظ ذلك. فلماذا قررت النيابة العامة التمييزية حفظ الملف؟ هذا هو السؤال. لماذا لا نسمع من يطالب بحقيقة ما حصل؟ يبدو أن هناك قراراً واضحاً بوجوب التصويب على طارق البيطار في ظلِّ المحسوبيات السياسية التي يحاولون أن يسيطروا بمقتضاها على مسار التحقيق.
في مجال آخر، نقل عن قاضي التحقيق في شأن استعادة وزير العدل مرسوم تشكيل الهيئة العامة لمحكمة التمييز من وزير المال قوله: «إنشاالله يمشي المرسوم والتشكيلات وينظروا في الطلبات وأنا تحت القانون. فإذا ارتأت مؤسستي إزاحتي ضمن الأطر القانونية فليكن وبغيرها لا، لن اتنحى».
لم يتعرض القاضي طارق البيطار الى تهديدات أخرى مباشرة في الآونة الأخيرة، ربما لأن المهددين مرتاحون بعد أن نجحوا في إضاعة الوقت. وهو طوال الأشهر الثمانية الماضية لم ينزل الى قصر العدل إلا ثلاث أو أربع مرات. لكنه، ما زال يراهن أن ينجح في تبيان الحقيقة في الملف الكبير، في أكبر ملف قضائي، يستأهل أن يتابعه حتى النهاية على الرغم من كل العراقيل. فهو يتحلى بصبر أيوب والصبر بالنسبة إليه «أن يهمس في أذن الحياة: لن أنحني ما دام الله معي». والصبر مشقة يعقبها فرح جميل وبداية جديدة. لكن، هذا لا يعني أنه يرى الحياة زاهية زاهرة بل يتوقع «مواجهة أقسى بعد» لكنه سيتحملها.
محبوبٌ هذا القاضي من الناس المظلومين، الذين يجدون فيه إنساناً يفهم وجعهم ويعي إنتظاراتهم ويناضل لعدالةٍ ينشدونها. لكن، من يعرفه، يحكي عن ألمه لرؤية من ينقلب عليه من بيت أبيه. ويتكلمون عن الألم الذي اجتاحه يوم انسحب ابراهيم حطيط من لجنة أهالي الضحايا وقوله عنه «الله يساعدو». فليس كل الناس قادرين على الصبر والصمود. وهو «لا يستبعد أن يكون هناك عمل بعد وبعد على تأليب محاور أخرى».
لا يكره طارق البيطار أحداً ولا يمارس العمل الكيدي «ولا حقد له ولا مودة خاصة لأحد وعلى أحد» فهو على مسافة من الجميع. وينتظر القرار من دعاوى كفّ يده ليعود الى ممارسة عمله تحقيقاً لعدالة منشودة.
الجمود في الملف أضرّ بالتحقيقات كثيراً. وسيحتاج حتماً الى الإطلاع على الملف من جديد، بعدما كان قد قطع شوطاً به يزيد عن 70 في المئة. ولو قُدّر له الإستمرار به لكان وصل حالياً الى خواتيمه. وهذا احتمال كبير. وهو مدركٌ تماماً أن الدولة تكون قوية حين يكون القضاء فيها وجيشها وأمنها أقوياء. وإذا انكسر القضاء إنكسرت الدولة. ويُنقل عنه قوله «القضاء يفترض أن يبقى فوق الجميع ولا أن يكون أحد فوق المحاسبة. فالدولة أهمّ من الاشخاص والكل، الكلّ، يفترض أن يكونوا تحتها». والقاضي الذي يُخطئ مؤسسته وحدها تحاسبه أما إذا أتت المحاسبة إستنسابية فليس القاضي من يدفع الثمن بل مؤسسة القضاء ككل تنكسر.
لا تدخلات خارجية في مسار التحقيق في ملف المرفأ حتى ولو كان هناك موقوفون حاليا يحوزون جنسيات أخرى. هناك دول إستفسرت فقط عن ظروف توقيف موقوفين يحملون جنسياتها ونقطة على السطر. في هذا الإطار يعلق أحد عارفي البيطار بالقول: «كلهم يعرفون أنه حتى لو أراد أحدهم التدخل فشخصية القاضي ستمنعه» وهو لم يلتق رئيس الجمهورية ميشال عون يوماً ولا جبران باسيل ولا سمير جعجع ولا وليد جنبلاط ولا سليمان فرنجيه ولا سواهم.
إثنان ممن استدعاهم القاضي طارق البيطار عادا الى قبة البرلمان وعند سؤاله أجاب «أنا قمتُ بواجبي».
لا أحد، لا أحد أبدا، يعرف ماذا يملك قاضي التحقيق من معطيات «فالتحقيق سري». صحيح أن بعض التسريب يحصل، أو قد يحصل، في كل دول العالم، خصوصاً أن بعض المعلومات تتقاطع لدى أكثر من جهاز لكن ما جمعه هو يبقى بحوزته هو. والملف كبير، كبير جداً، أكثر حتى من كل التوقعات. لذا يُنقل عنه «أن أمورا أكثر صعوبة سيمرّ بها التحقيق. واتكاله لن يكون إلا على الله وحده». هو يسأل نفسه أحياناً عن الثمن الذي قد يدفعه ويجيب نفسه «يمكن أن يكون غالياً لكني جاهز له».