جوني منير – الجمهورية
بقدر ما كان القلق واضحاً لدى الكرسي الرسولي حول وجود مخاطر لتغيير صورة لبنان، لمست الوفود الروحية المسيحية الستة، تصميم الفاتيكان على المساعدة في الحفاظ على هوية العيش المسيحي – الاسلامي المشترك في لبنان. ولهذا، جدّد البابا فرنسيس في الكلمة الختامية، الالتزام ببناء المستقبل معاً، والذي سيكون سليماً فقط اذا كان مشتركاً.
خلال الاسابيع الماضية أُنجز التفاهم الانتخابي بين «التيار الوطني الحر» و»حزب الله»، وهو ما يعني ضمناً مساعدة الحزب اقتراعاً لمرشحي التيار في الدوائر التي تسمح لهذا النوع من المساعدة. وبالتالي، تأمين مقاعد نيابية للكتلة النيابية للتيار المهدّدة بخسارات في العديد من الدوائر، خصوصاً تلك التي تُعرف بالدوائر المسيحية الصافية. وجاء ذلك بناء على دراسات واستطلاعات متعددة اجراها «التيار الوطني الحر» من جهة و»حزب الله» من جهة ثانية على الساحة المسيحية. وجاءت انتخابات نقابة المهندسين أخيراً لتؤكّد المؤكّد، حيث سُجّلت مشاركة مسيحية استثنائية، صبّت بمعظمها ضدّ لوائح الاحزاب، ما يعني وجود مناخ مسيحي محتقن، قابل لأن يُترجم في الانتخابات النيابية المقبلة «تسونامي» انتخابياً، ولكن هذه المرة ضدّ الاحزاب وقوى السلطة.
وقد يكون «حزب الله» يستعد لكيفية معالجة الإنزعاج الذي من المرجح ان يصدر عن حليفية له جراء ذلك. الحليف الاول هو الرئيس نبيه بري، الذي يخوض معركة شرسة وكسر عظم مع رئيس الجمهورية و»التيار الوطني الحر»، والحليف الثاني هو سليمان فرنجية الذي لا توجد اي خطوط تواصل بينه وبين الرئيس عون ورئيس التيار النائب جبران باسيل منذ مدة طويلة، لا بل حصلت مواجهات عدة، بعضها سياسي والبعض الآخر أخذ الطابع القضائي، في وقت لا يزال فيه الصراع العنيف دائراً حول الاستحقاق الرئاسي المقبل. رغم هذه «الزوبعة» التي من المتوقع ان تحصل بين «حزب الله» وحليفيه، إلّا أنّه اتخذ قراره «بالتحالف» الانتخابي مع «التيار الوطني الحر» ومساعدته في الدوائر ذات التأثير الشيعي.
بالتأكيد «حزب الله» ليس جمعية خيرية، فهو صاحب مشروع سياسي ويعمل وفق رؤية استراتيجية وخطة عابرة للحدود. وفي المقابل، كان واضحاً المشروع السياسي الجديد للنائب باسيل، والذي المح اليه بشيء من الخفر في مناسبات عدة.
ففي الاحتفال الاخير لذكرى 13 تشرين، طالب باسيل في كلمته بفتح الباب امام تعديل الدستور. وكرّر مطالبته في مناسبات أخرى بذريعة معالجة بعض النصوص التي ادّت الى التباسات عدة في معرض تطبيقها. لكن الكلام الأوضح الذي صدر عنه جاء أخيراً، حين أبدى تأييده لحصول مداورة على مستوى الرئاسات الثلاث، رغم أنّه كان يعلن في الوقت نفسه رفضه تشكيل الحكومة، بسبب تسمية الوزيرين المسيحيين، وتحت شعار الانتقاص من حقوق رئاسة الجمهورية وبالتالي حقوق المسيحيين، والدعوة الى المداورة على مستوى الرئاسات الثلاث، تعني بطريقة او بأخرى الذهاب الى صيغة المثالثة. وهذه المسألة تحديداً هي التي تقلق المراجع الروحية المسيحية والعواصم المتعاطفة معها، ذلك أنّها تعني بشكل واضح افراغ لبنان من الحضور المسيحي خلال سنوات معدودة، ومعه انتهاء الوجود المسيحي بشكل كامل في الشرق، بعد النزيف الحاد الذي طال وجودهم خلال السنوات الماضية في العراق وثم في سوريا.
في الواقع، ليس من المبالغة الاعتبار بأنّ المرحلة الحالية هي مفصلية، وتشكّل منعطفاً تاريخياً اساسياً لبلدان الشرق الاوسط، والجميع يعرف ذلك. ففي هذه المرحلة تقود واشنطن جهوداً كبيرة لإعادة صياغة خارطة النفوذ السياسي في المنطقة، على قاعدة انجاز تفاهمها النووي مع ايران. وبطبيعة الحال ستطال هذه الخارطة السياسية الجديدة المدى الحيوي للنفوذ السياسي لإيران، بعد سنوات طويلة من الصراعات والمواجهات. ومن هذه الزاوية يُفهم القلق الاسرائيلي، كون اسرائيل هي معنية مباشرة بهذه التعديلات التي ستطبع العقود المقبلة. وانطلاقاً من ذلك، ولأنّ العمل جارٍ لإخماد الحرائق المشتعلة في المنطقة، فإنّ تسوية ما تنتظر اليمن، وترتيبات تنتظر العراق وكذلك سوريا، وترسيم للحدود البحرية والبرية الجنوبية تنتظر لبنان. وبعبارة أخرى، فإنّ مجالات العمل العسكري لم تعد متوفرة امام «حزب الله»، ما يستوجب تفعيل الحضور السياسي على حساب العسكري.
ومعه، فإنّ العواصم الغربية تقرأ في الفراغ الحكومي في لبنان اشارة واضحة لنسف ركائز جمهورية الطائف تمهيداً للانتقال الى جمهورية المثالثة. وبرأي هؤلاء، فإنّ «حزب الله» يستفيد من الأطماع الشخصية التي تعطّل الولادة الحكومية، للدفع باتجاه الفراغ على مستوى مؤسسات الدولة، لفتح الطريق امام المؤتمر التأسيسي، في ظل انهيار اقتصادي غير مسبوق وفوضى عارمة على كافة المستويات.
ولا تستبعد الاوساط الغربية ان يكون المناخ الذي سيسبق ويواكب العملية الانتخابية «ملتهباً»، طالما انّ المطلوب دكّ اسس الجمهورية الثانية. هذا عدا عن وجود معلومات اكيدة تشير الى تفاهم حصل مع رئيس الجمهورية بأن يبقى في قصر بعبدا في حال الفراغ الرئاسي، والذي سيكون طويلاً، طالما أنّ الصيغة الدستورية لم تتبدّل.
وخلال الأشهر السبعة الماضية، حذّر البابا فرنسيس ثلاث مرات اللبنانيين من تغليب المصالح الخاصة والذاتية على المصلحة العامة، طبعاً هو كان يقصد فريقاً معيناً.
المرة الاولى كانت في الرسالة الميلادية التي أرسلها الى البطريرك الماروني، والمرة الثانية خلال القاء كلمته امام اعضاء السلك الديبلوماسي المعتمد في الفاتيكان، والمرة الثالثة كانت منذ ايام، وخلال النهار المخصّص للبنان. هذا الإلحاح البابوي النابع من خوف كبير من المستقبل المجهول لم يجد له آذاناً صاغية بعد.
العائدون من الفاتيكان لمسوا اهتماماً استثنائياً لدى الكرسي الرسولي، مع خطة سيجري وضعها لمنع حصول اي تقلّبات لن تكون حتماً في مصلحة استمرار صورة التعايش المسيحي – الاسلامي. وتردّد انّ البابا فرنسيس سيستعمل كافة امكانياته في المحافل الدولية، ولا سيما مع واشنطن، حيث يتوقع اجراؤه اتصالاً مباشراً ومطولاً مع الرئيس الاميركي جو بايدن، يتناول في جانب اساسي منه الوضع في لبنان والمخاطر المطروحة، والحرص على ألّا يكون ثمناً في عملية المبادلة وسوق القطع السياسي في الشرق الاوسط.
خلال دراستهما الاخيرة، اقترح جيمس جيفيري السفير الاميركي السابق في تركيا والعراق، ودنيس روس المساعد الخاص للرئيس السابق باراك اوباما، أن تعمل ادارة جو بايدن على انتاج نوع من المعادلة الردعية في المنطقة، بوجه ايران، من خلال صياغة تحالفات تدفع ايران لتهدئة سلوكها (كما ذكرا في دراستهما التي نشرها معهد واشنطن) وعبر نسج تفاهمات ثابتة مع دول عربية واسرائيل وتركيا.
لا شك انّ الاسابيع والأشهر المقبلة ستكون عصيبة، خصوصاً وأنّ الانهيارات المتتالية في لبنان ستزداد تسارعاً، وبالتالي قساوة على اللبنانيين.