كتب عثمان ميرغني في “الشرق الأوسط”:
رغم كل المآسي التي خلفها فيروس «كورونا» والعدد الهائل من البشر الذين ماتوا بسببه، لا يزال كثيرون مترددين أو رافضين تماماً للقاحات. لمست هذا الأمر حتى بين بعض أفراد أسرتي وأصدقائي وزملائي الذين تأثروا إما بنظريات المؤامرة المنتشرة حول اللقاحات، بل وحول جائحة «كورونا» ذاتها، وإما بالأخبار السلبية عن آثار جانبية لبعض هذه اللقاحات. يحدث هذا الأمر رغم الموجات الجديدة لـ«كورونا» وانتشارها الواسع، وآثارها المدمرة مثلما نراه اليوم في الهند مثلاً.
التشكيك في اللقاحات يترافق أيضاً مع ميل كثيرين في عدد من الدول الفقيرة لعدم الالتزام بإجراءات التباعد والوقاية مثل ارتداء الكمامات، وهو ما أسهم في الارتفاع الكبير للإصابات بـ«كوفيد – 19»، وظهور سلالات جديدة متحورة من الفيروس أشد خطراً وأسرع انتشاراً. ففي الهند التي تطغى أخبارها هذه الأيام كان معدل الإصابات اليومي حتى مارس (آذار) الماضي لا يتجاوز 13 ألفاً، وهي نسبة قليلة إلى حد ما في بلد تعداد سكانه 1.4 مليار نسمة. لكن في أبريل (نيسان) الحالي، بلغ معدل الإصابات في بعض الأيام نحو 315 ألفاً، وهي أعلى نسبة إصابات يومية في أي بلد منذ انتشار الجائحة.
وقوع الناس في فخ نظريات المؤامرة والتشكيك في اللقاحات يجعلهم يغضون الطرف عن حقائق مهمة حول فائدة اللقاحات، وعن آراء العديد من الجهات العلمية والطبية المحترمة حول العالم، بل وعن مناشدات منظمة الصحة العالمية والحكومات للناس لكي يقبلوا على التطعيم باعتباره السلاح الأساسي في معركة العالم ضد «كورونا». فكل التقارير المنشورة أكدت أن اللقاحات أثبتت فاعليتها وقلّصت نسبة الإصابات، وحدّت من الوفيات، وخفضت بمعدلات كبيرة عدد الناس الذين يدخلون المستشفيات للعلاج من «كوفيد – 19».
«المراكز الأميركية للسيطرة على الأمراض والوقاية» (سي دي سي) أعلنت، هذا الأسبوع، أنه من بين 84 مليون أميركي تلقوا اللقاحات أصيب 6 آلاف فقط بـ«كوفيد – 19» (أي نسبة 0.007 في المائة) ما يؤكد الفاعلية العالية للقاحات في منع الإصابة بالمرض. وحتى الذين أصيبوا فإن أعراضهم كانت خفيفة وأكثرهم لم يكن بحاجة لدخول المستشفيات. هذا فيما يتعلق بمن تلقوا اللقاح، أما الذين لم يأخذوه فقد استمرت معدلات الإصابة بينهم عالية والوفيات مستمرة.
قد يسأل سائل، كيف أصيب بعض مَن تلقوا اللقاح بـ«كوفيد»؟
المعروف أنه في كل اللقاحات لمختلف الأمراض والأوبئة لا توجد وقاية بنسبة 100 في المائة، إذ توجد دائماً نسبة لا يكون اللقاح فعالاً معها لسبب أو لآخر. وفي الجائحة الراهنة فإن اللقاحات لا تعني اجتثاث «كورونا» نهائياً، في أي أجل منظور، لكنها تعني كبح جماح الفيروس، والحد من مخاطر الإصابة، وتقليص الأعراض الخطيرة. بعبارة أخرى، فإن اللقاحات تعني الوصول إلى نقطة يصبح معها «كوفيد – 19» مثل الإنفلونزا، مرضاً لا يثير الرعب ويمكن التعايش معه، علماً بأن الإنفلونزا وأمراض الجهاز التنفسي المتصلة بها تكون سنوياً سبباً في وفاة نحو 650 ألف شخص، وفقاً لمنظمة الصحة العالمية.
المفارقة أن الناس يتقبلون نسبة المخاطر في أمور كثيرة، في حين أنهم يرفضون تقبل أي نسبة مخاطرة ولو ضئيلة للغاية في لقاحات «كورونا»، متأثرين بما ينشر أحياناً من أفكار واهية وأخبار مضللة من مروجي نظريات المؤامرة. فهناك مخاطر أعلى من التلوث البيئي، ومخاطر حدوث جلطات عند بعض السيدات اللاتي يستخدمن حبوب منع الحمل، بل ومخاطر في قيادة السيارات وحوادث الطرق، ومع ذلك فإن الناس يتقبلون الأمر. فلم نسمع مثلاً دعوات لمنع استخدام السيارات لأن هناك عدداً من الناس يموتون في حوادث الطرق، بل تكون الدعوات عادة لالتزام الحذر والأخذ بالاحتياطات مثل حزام الأمان والبعد الآمن في الطرقات وخلافه. لماذا لا يطبق الناس هذا الفهم على «كورونا» ويلتزمون سبل الوقاية بما فيها اللقاحات؟
الخوف من اللقاحات يعود بشكل كبير إلى ما ينشر على وسائل التواصل الاجتماعي من نظريات المؤامرة حول التطعيم. ورغم أن القائمين على «فيسبوك» و«تويتر» تعهدوا مراراً بمنع أي معلومات مضللة وأخبار كاذبة حول اللقاحات، فإن الكثير من المواد المضللة والمفبركة لا تزال منتشرة في مواقع التواصل الاجتماعي. ووفقاً لتقرير صادر في مارس الماضي عن مركز المنظمات غير الحكومية لمكافحة الكراهية الرقمية، فإن ما يصل إلى 65 في المائة من المحتوى المضاد للقاحات، الذي يروج معلومات خاطئة حولها على «تويتر» و«فيسبوك» يعود لـ12 حساباً فقط.
وظاهرة الخوف من اللقاح لا تقتصر على المواطنين العاديين، بل تمتد أيضاً لأناس يعملون في القطاعات الصحية. فقبل أيام كشفت وزارة الصحة البريطانية أن عشرات الآلاف من العاملين الطبيين في الخطوط الأمامية لم يتقدموا لأخذ اللقاح، وأن ما يقرب من 15 في المائة من العاملين في مجال الخدمات الصحية في إنجلترا لم يحصلوا على المصل حتى الآن.
هناك أيضاً ارتباط واضح بين الأنباء السلبية عن الآثار الجانبية لبعض اللقاحات، وبين الخوف من أخذ المصل. ففي بريطانيا وقبل انتشار التقارير حول الآثار الجانبية لبعض اللقاحات مثل «أسترازينيكا» و«جونسون آند جونسون»، توجه في المتوسط نحو 23 ألفاً من العاملين في القطاع الصحي البريطاني للتطعيم في الأسبوعين الأولين من مارس، لكن هذا العدد تراجع إلى نحو 11 ألف شخص في الأسبوع الأخير من مارس، و6059 شخصاً فقط في الأسبوع الأول من أبريل الحالي.
رغم كل ما يقال بين المشككين، فإن اللقاحات تبقى الركن الأساسي في مواجهة تفشي الجائحة، وأفضل طريق للخروج من الأزمة التي يمر بها العالم على المستوى الصحي والاقتصادي والإنساني. فحتى اللقاحات التي لا تزيد نسبة فاعليتها على 50 أو 60 في المائة تظل أفضل من عدمها.
عالمياً، تلقى نحو مليار شخص اللقاح ضد «كوفيد – 19»، منهم 230 مليوناً في أميركا وحدها، و229 مليوناً في الصين، و123 مليوناً في الاتحاد الأوروبي، في حين أن نسبة مَن تلقوا التطعيم في أفريقيا كلها لم تتجاوز 1.3 في المائة. هذا التفاوت لا يرتبط فقط بمسألة مخاوف اللقاح، وإنما يعود بشكل أساسي إلى الموارد المالية واستحواذ الدول المقتدرة على النسبة الأعلى من اللقاحات المتوفرة، وهو أمر يحتاج إلى معالجة إذا كان للعالم أن يسيطر على الجائحة.
حتى ذلك الوقت، فإن العالم سيكون منقسماً إلى عالمين؛ عالم مَن تلقوا التطعيم، وعالم مَن لم يحصلوا على اللقاح لسبب أو لآخر. الذين تلقوا اللقاحات سيكون بمقدورهم لاحقاً السفر والتنقل واستعادة نشاطهم الاقتصادي وحياتهم الطبيعية، في حين أن معاناة محرومي اللقاح سوف تستمر حتى تنتشر اللقاحات بشكل واسع في كل العالم، ونصل إلى نسبة 70 أو 80 في المائة المطلوبة للحصول على «مناعة القطيع» والسيطرة على «كورونا». وتبقى نصيحة أكثر الجهات العلمية والطبية العالمية هي أهمية التطعيم لمن يتوفر له اللقاح، فالمنافع تتجاوز المخاطر بنسبة كبيرة للغاية، على الرغم مما قد تسمعه من مروجي نظريات المؤامرة والأخبار المضللة.