عماد الدين أديب – أساس ميديا
السؤال العظيم الصعب المؤلم: هل الخلاف بين السعودية والإمارات، الذي تفجّر في اجتماعات “أوبك بلاس”، هو خلاف ملفّات وموضوعات ناشئ عن تضارب مصالح عليا أم هو تعبير عن خلاف بين زعامات البلدين؟
لا بدّ أن نفهم أنّ الجانب الشخصي في علاقات زعامات العالم العربي، وبالذات في الخليج، تلعب دوراً مفصلياً في تحديد حرارة أو برودة العلاقات بين الدول.
كان الجانب الإنساني الشخصي في علاقات جيل الملوك، عبدالعزيز وسعود وفيصل وخالد وفهد وعبدالله، مع زعماء الدول الأخرى، هو حجر الزاوية في معظم الحالات ومعظم الملفّات.
مع عالم متقلّب سياسياً، مضطرب اقتصادياً، مأزوم ماليّاً، أصبح سلوك التنافسية الشديدة سلوكاً لا بديل عنه. وأصبح ذلك واضحاً لدى جيل الأبناء والأحفاد للزعامات العربية
كانت العلاقة بين الشيخ زايد بن نهيان والملك فهد والملك عبدالله، رحمهم الله جميعاً، تراعي اعتبارات السنّ والعرف والتقاليد والأخلاقيّات العربية، وهو ما يخلق دائماً حالة “الخواطر قبل المصالح”، وذلك يعني أنّ من الممكن أن تمتنع دولةٌ ما عن منفعة أو تحمل فاتورة غالية “إكراماً” للشقيق الأخ الصديق.
مع تطوّر المجتمعات والثقافات، وشيوع البراغماتية وعالم المصالح والأعمال من خلال التنافسية الشديدة في عالم “البيزنس”، أصبح في منطقة الشرق الأوسط مفهوم “المحبة الشخصية شيء، والمصالح الوطنية شيء آخر”.
ومع عالم متقلّب سياسياً، مضطرب اقتصادياً، مأزوم ماليّاً، أصبح سلوك التنافسية الشديدة سلوكاً لا بديل عنه. وأصبح ذلك واضحاً لدى جيل الأبناء والأحفاد للزعامات العربية.
ويقول مصدر خليجي مخضرم: “إنّ حالة الانتقال، من سلوك الخواطر والفروسية العربية إلى علوم الأرقام والحسابات المادية في عالم معيّن، هي مرحلة صعبة تحتاج إلى ترتيب وتنظيم واعتياد”.
وما هو حادث بين الرياض وأبوظبي هو، على مسؤوليّتي، خلاف موضوعي يتعلّق باختلاف رؤى ومصالح مادّية بحتة بين دولتين عضويْن في “أوبك بلاس”، ولهما تأثير مباشر على حجم إنتاج وحركة المصافي وصناعة البتروكيمياويّات في المنطقة والعالم.
والخلاف بين دولتين على حجم إنتاج سلعة استراتيجية تمثّل لكلّ منهما ما بين 80 إلى 90 في المئة من مصادر الدخل العام، في زمن تعرّضت فيه اقتصادات المنطقة إلى 3 إشكاليات كبرى:
1- انخفاض سعر برميل النفط من 120 دولاراً (أعلى سعر) إلى 39 دولاراً (أقلّ سعر)، بمتوسط من 55 إلى 65 دولاراً في الشهور الماضية، وتجاوز 70 دولاراً أخيراً. هذا الانخفاض كلّف الرياض وأبوظبي من 250 إلى 280 مليار دولار أميركي.
2- فاتورة الدعم الاجتماعي من حكومات الإمارات والسعودية لمواطنيهم، غير الخسائر المباشرة وغير المباشرة التي تكبّدها اقتصاد البلدين، كلّفت خزانة البلدين ما يقدّر بـ300 مليار دولار.
3- كلفة الفاتورة اليومية لحرب التحالف العربي في اليمن منذ 7 سنوات حتى الآن. وهي فاتورة يصعب حسابها بدقّة.
إذا وضعنا ملفّات انخفاض سعر النفط، فاتورة كورونا، فاتورة حرب اليمن، فإنّ الصناديق السيادية لكلّ من الإمارات والسعودية، ومهما كانت على قدر كبير من القوّة والسيولة، فإنّها بالتأكيد دفعت فاتورة صعبة.
هذا كلّه يجعل مسألة الحسابات تضغط على مسألة الخواطر.
للتعامل مع هذه الملفّات الضاغطة، كانت فكرة الرياض عرض حصة استراتيجية من شركة أرامكو للطرح العام.
وللتعامل مع هذا الملفّ، أجرت شركة النفط الوطنية في أبوظبي دراسات مهمّة ومتميّزة لخلق سوق سلع في أبوظبي يمكن فيه، بعد الخروج من التزامات “أوبك بلاس”، طرح منتجات النفط المختلفة في هذا السوق.
إنّها نقطة فاصلة يقوم فيها كلّ طرف (في الرياض وأبوظبي) بممارسة حقّه السيادي والمشروع في تعظيم مصالحه وتحسين موارده السيادية من أهمّ سلعة استراتيجية لديه.
من مصلحة السعودية، حسب تقديراتها، أن تستمرّ في تحالف “أوبك بلاس”، وتلعب الدور المرجّح في سقف الإنتاج وفي الاقتصاد العالمي، خاصة أنّها تقود هذا الكارتل الآن
ملفّ “أوبك بلاس” هو حالة دقيقة لأنّه يعني لكلّ طرف، لأسباب وطنيّة، وأسباب موضوعية بالدرجة الأولى، مسألة حيوية جدّاً، لأنّه يتّصل بالمصدر الرئيس للدخل الوطني في ظل اقتصاد عالمي مأزوم ومضطرب.
من مصلحة السعودية، حسب تقديراتها، أن تستمرّ في تحالف “أوبك بلاس”، وتلعب الدور المرجّح في سقف الإنتاج وفي الاقتصاد العالمي، خاصة أنّها تقود هذا الكارتل الآن.
ومن مصلحة الإمارات، حسب تقديراتها، وهي تعدّ لنظام تسويق وتسعير وبيع النفط الخامّ ومشتقّاته، عبر طرح سوق جديد على أراضيها، إمّا أن تغادر الكارتل أو تحصل على حصّة عادلة، بمعنى ألّا تضحّي أكثر من غيرها من شركائها في “أوبك بلاس”.
ولأنّني أتنقّل خلال السنوات الأخيرة بين الرياض وأبوظبي، وأعايش تفاصيل الأحداث، فقد طرحت سؤالاً مباشراً على مصادري في البلدين: “هل هناك شيء بين أبي خالد (الشيخ محمد) وأبي سلمان (الأمير محمد)، فجاءت الإجابة متطابقة من الرياض وأبوظبي، تقول: “لا، والله، المسألة لها علاقة بملفّات، وليس بأشخاص”.
وأكّد لي مصدر خليجي (ليس سعوديّاً ولا إماراتيّاً) أنّ الرجليْن تجمعهما مشاعر أخوّة قويّة، وأيضاً فهم عميق لأهميّة العلاقة الاستراتيجية بينهما.
العلاقة الاستراتيجية بين الأمير والشيخ، وبين الرياض وأبوظبي، ظهرت بالفعل في عدّة ملفّات:
1- دعمهما المشترك لثورة 30 يونيو المصرية.
2- دخولهما المشترك في حرب اليمن.
3- توافقهما على مقاطعة قطر.
4- توافقهما على قبول مصالحة قمّة “العلا”.
5- تنسيقهما الأمني على أعلى المستويات في ملفّات الأمن القومي، وفي ملفّ محاربة الإرهاب التكفيري.
6- التنسيق التجاري والاقتصادي بين البلديْن حتى وصل حجم الأعمال بين البلديْن، في سبع السنوات الأخيرة، إلى 230 مليار ريال سعودي، وانفتحت أبواب الاستثمارات الخاصّة، ونمت بشكل ملحوظ في مجال العقارات والسياحة والصناعات الغذائية.
ويقول مصدر مطّلع على ملفّ العلاقات بين البلديْن:
1- غير صحيح أنّ خروج القوات الإماراتية من اليمن كان مفاجئاً، بل كان حوله تشاور دائم بين البلدين لأكثر من عام.
2- غير صحيح أنّ قرارات المنع الصحّية، الصادرة من الرياض تجاه القادمين من الإمارات، كانت مفاجئة، بل كانت دائماً تتمّ باتّصال من الجانب السعودي بنظيره الإماراتي للشرح والإخطار وتوضيح الموقف. وكان الجانب الإماراتي يتفهّم الموقف.
3- غير صحيح أنّ الإمارات كانت أكثر المعترضين على مصالحة قطر، بل كانت مصر والبحرين الأكثر اعتراضاً. وأكّدت المصادر أنّ أبوظبي فوّضت إلى الرياض، بطيب خاطر وثقة، إدارة هذا الملفّ.
من مصلحة الإمارات، حسب تقديراتها، وهي تعدّ لنظام تسويق وتسعير وبيع النفط الخامّ ومشتقّاته، عبر طرح سوق جديد على أراضيها، إمّا أن تغادر الكارتل أو تحصل على حصّة عادلة، بمعنى ألّا تضحّي أكثر من غيرها من شركائها في “أوبك بلاس”
4- غير صحيح أنّ الرياض لديها حساسيّة من زيارة ولي العهد الإماراتي لمصر. وغير صحيح أنّ الإمارات غضبت من زيارة ولي العهد السعودي لشرم الشيخ، بل إنّها رحّبت بها، وشجّعت أيّ تطور في العلاقات بين القاهرة والرياض.
هنا لا بدّ من تحديد الإجابة الدقيقة عن سؤال جوهري هو: إذا كان ما سبق ذكره صحيحاً، فأين المشكلة؟ ولماذا خرج الخلاف من داخل غرف المفاوضات إلى العلن بقوّة؟
الإجابة ببساطة: علينا جميعاً أن نتعلّم القبول بحالة التحالف بين المتنافسين أو التنافس بين الحلفاء.
علينا أن ننتقل من حالة “الوهم الذي اخترعناه، وهو حالة “التطابق الكامل في المواقف والمصالح”، لأنّه أمر غير منطقي وغير طبيعي، ولم يحدث في أيّ زمان أو مكان بين أيّ دولتين ذات سيادة.
ويمكن القول إنّ حالة الإمارات والسعودية هي حالة اختلاف المصالح الذي يخلق اختلافاً بين السرعات في التوجّه إلى الأهداف النهائية.
مثلاً: قد تكون الإمارات أسرع في الوصول إلى سلام مع إسرائيل من السعودية.
مثلاً: قد تكون السعودية أقرب إلى تفاهم مع إيران من الإمارات.
مثلاً: قد تكون الإمارات أسرع من السعودية في الخروج العسكري من اليمن.
مثلاً: قد تكون السعودية أسرع في تطوير العلاقات مع الجانب القطري من الإمارات.
كلٌّ من البلدين يتّجه إلى الهدف النهائي نفسه في سياستهما، ولكن بسرعات مختلفة، وذلك لأسباب موضوعية ومنطقية يجب أن تراعي خصوصية حسابات النظام والرأي العام والاقتصاد الوطني.
أين نحن الآن من هذه الأزمة؟
بأمانة يجب أن أكون صريحاً وأقول نحن على مفترق طرق ما بين “الإدارة العاقلة والإلزامية لهذا الملفّ حتى لا يفلت”، وبين قيام بعض الأصوات الشعبوية والمعادية لهذا التحالف بزيادة حساسية هذا الخلاف وإشعال الموقف، بحيث ينتقل إلى ملفّات أخرى تجعله ينفجر بشكل كلّي، ويصل بالأمور إلى نقطة مؤلمة ومدمّرة للجميع.
مخاطر الانتقال إلى إشكاليات أخرى ممكنة في ملفّات عديدة:
مثلاً: 42 منطقة حرّة في دبي يمكن أن تتضرّر من قرارات سيادية تصدر ضد فرض رسوم جمركية عليها من قبل السعودية.
مثلاً: 600 رحلة أسبوعياً تنقل مواطنين إماراتيين إلى السعودية للعمل والحجّ والعمرة، وتنقل رجال أعمال وسيّاحاً سعوديين إلى الإمارات، يمكن أن تتوقّف.
مثلاً: هناك قرار سعودي حكومي بعدم التعامل مع الشركات الدولية التي لا تتّخذ من السعودية مقرّاً إقليمياً لها.
مسألة العلاقات بين السعودية والإمارات مسألة “سوبر ضرورية” لهما أوّلاً، ولمجلس التعاون الخليجي ثانياً، ولمعسكر الاعتدال العربي ثالثاً، وللدول المصدِّرة للبترول رابعاً، ولمواجهة الإرهاب التكفيري خامساً، وللتعامل مع الجنون الإيراني والحماقات التركية سادساً، والقائمة لا تنتهي.
العلاقات بينهما لا يصلح لها بديل ولا احتياطيّ، فلا يمكن لقطر أن تلعب دور الإمارات بالنسبة إلى السعودية، ولا يمكن لتركيا أن تلعب دور السعودية بالنسبة إلى الإمارات.
إنّها علاقة أشقّاء وحلفاء يجب أن لا يسيء إليها أحد في الإعلام، بل هي ركيزة أساسية من ركائز المشروع العربي المعتدل، يتعيّن على كل عروبي وعاقل ومخلص لأمّته أن يدافع عنها.