شعار ناشطون

الحق في التشريع: المدماك الضامن للوحدة في التنوّع

21/02/22 09:07 am

<span dir="ltr">21/02/22 09:07 am</span>

كتب المحامي ادغار قبوات: 

إن السمة التكوينية للاجتماع اللبناني هي انه اجتماع متغاير غير متجانس، اي تعددي. اما الدعوات الانصهارية التجانسية، فلا تعكس المجتمع اللبناني بشيء ولا تعكس حقيقة تكوينه السوسيولوجي الطوائفي. فاذا كان من المتعارف عليه ان الدساتير وضعت لتأمين استمرارية الحكم وتنظيم السلطات العامة في البلاد، فلا يمكن إذا لدولة ما ان تعتمد دستورا يناقض التكوين البنيويّ الخاص بشعبها. رفاهية الإنسان هي الأساس، وليس النظام. وضعت الدساتير لحماية الشعوب، ولمواكبة تطويرها، لا سيما عندما تثبت التجربة التاريخية عن اخفاق وفشل الصيغة الدستورية. عندئذ، تصبح المطالب بتغيير النظام مبررة ومشروعة، لا بل واجبة.

لقد وضع القانون الدستوري المقارن انظمة معيّنة لتنظيم وادارة التعددية المجتمعية وتعزيز الحوكمة السياسية. تشكل الفدرالية الإطار السياسي الأكثر نجاحا للحفاظ على وحدة الدولة، عبر إدارة مميزة للمصالح المشتركة في المجتمعات التعددية القائمة على التنوع. فعند تشخيص الفدرالية، يكون من الخطأ تقديم الوحدة على أنها نقيض التنوع، فالوحدة يناقضها الانقسام، والتنوع يناقضه التجانس. الفدرالية تقوم على خلق الوحدة وصونها من خلال توزيع السلطات باسم التنوع. أكثر من ذلك، إن تحقيق التوازن بين الوحدة والتنوع، يرتبط بشكل مباشر بجوهر تعريف الفدرالية، وهي كيفية توزيع الصلاحيات بين السلطة الاتحادية وسلطات الوحدات، وأبرزها “حق التشريع”.

اهمية الفدرالية وتمايزها عن اللامركزية الادارية والمناطقية Décentralisation et Régionalisation  تكمن في انها تعزز قدرة الوحدات المحلية بان تضع سياساتها الخاصة تلبية لاحتياجاتها، ما يتيح لها رسم سياسات ابتكارية قد لا تصلح على المستوى الوطن، ودون الحاجة الى استصدار موافقة السلطة المركزية عليها. ففي عام 2006 مثلا، تمكّنت ولاية ماساشوسيتس الأميركية من إنشاء نظام شبه عام للتأمين الصحّي، وسّع كثيرا قدرة ذوي الدخل المحدود او المنخفض على الحصول على رعاية طبية، وذلك، على الرغم من غياب تدبير مشابه على المستوى الوطني. تأسيسا على ذلك، اقرار التشريعات المحلية الضرورية لحاجات الشعب اليومية هي أكثر سهولة من اقرارها على المستوى الاتحادي، حيث تقف الاختلافات والمصالح والتناقضات بين المكوّنات سدّا منيعا امام اقرارها، بانتظار تحقيق مكاسب سياسية ضيّقة من هنا وهناك.

ولكن التشريع المحلي يؤمّن ايضا الطمأنينة الفعلية للمكوّنات كافة. تمثل السلطة التشريعية المؤسسة التي تختص اختصاصاً شاملاً في إصدار وسنّ التشريعات التي من شأنها تنظيم أحوال الوحدات وتسيير شؤونها، بما يتناسب وتطلعات الجماعات التي تقطن فيها، كما يوفر لتلك الجماعات جواً من الاطمئنان بأنّ القوانين الصادرة عن برلمانها لن يناقض عاداتها وتقاليدها العامة والسائدة في المجتمع، الأمر الذي يعزّز النمو الثقافي ويحافظ على الهوية المجتمعية.

إن اعتماد قانون الزواج المدني الاختياري مثلا، يتلاءم كليا مع تطلعات الأغلبية الساحقة من المسيحيين في لبنان، واثبتت التجربة بأن كل مشاريع القوانين التي سبق وتم تقديمها في هذا المجال، لم ولن يتم إقرارها او حتى مناقشتها بسبب مركزية النظام المتشدد، المعطوف على تدخل رجال الدين المحمديين سدّا منيعا لعدم السير قدما به لأسباب عقائدية ودينية. اما الطوائف المسلمة، فهي تتمنّى التوقّف عن العمل يوم الجمعة مثلا، لا سيما في الادارات العامة، وهو حق مشروع لها يتلاءم كليّا مع معتقداتها وثقافتها.  فاذا كانت اللامركزية المالية والادارية تدفع نحو المزيد من الحوكمة السياسية، فالمشكلة في لبنان تتجاوز هذا الامر بكثير. فتنظيم التعددية المجتمعية والطائفية بصورة نهائية عبر اعتماد نظام دستوري يعكس المجتمع اللبناني، هو همّنا الاساسي، كونه يصون الوحدة من ضمن التنوّع، عن طريق إيلاء حق التشريع للمكونات كافة، عسى ان يأخذ الجميع علم بهذه التشريعات ويتم احترامها من قبل كل المكونات الطائفية تجاه بعضها البعض.

انطلاقا من ذلك، لا بد من الإشارة إلى ان النظام الأفضل لتوزيع الصلاحيات التشريعية بين السلطة المركزية من جهة والوحدات المحليّة من جهة اخرى، يقضي بأن يحدد الدستور الاتحادي المسائل التي يعود أمر التشريع فيها إلى الحكومة المركزية على سبيل الحصر وكل ما لم ينص عليه الدستور (الاختصاصات المتبقية) تناط بالحكومات المحلية.  يترتب على ذلك أن تكون الاختصاصات الخالصة الممنوحة للحكومة المركزية ضئيلة، أي يكون اختصاص الولايات هو الأصل واختصاص الحكومة المركزية هو الاستثناء كما هو الحال في الولايات المتحدة الأميركية مثلا او أستراليا.  ما نسعى إليه في لبنان، هو ان يحدد الدستور الفدرالي، على سبيل الحصر، الموضوعات التي يعود أمر التشريع فيها للحكومة المركزية، وذلك لتوسيع الصلاحيات التشريعية للوحدات بقدر الامكان بغية تأمين نقل القدر الأكبر من الصلاحيات من المركز الى السلطة المحلية.

إننا نرى ان الفدرالية تصون التعددية الطائفية وتحفظ وحدة الدولة في آن، أيا كانت نوعية التعددية هذه، كما تقيم وفاقا وطنيا حرّا، وصلبا وثابتا. فهي تعزز الحوكمة السياسية عبر تفعيل مبدأ المراقبة السياسية نتيجة لنقل السلطة من المركز الى السلطة المحلية، وتقف في وجه اي طامع خارجي، لا سيما عند اقترانها بالحياد الدائم. إلا ان هذه الفدرالية بحاجة ايضا إلى إجماع وطني، كي لا تنفجر على غرار النموذجين السوفياتي واليوغسلافي. فالفدرالية تؤمّن النموذج الدستوري الامثل للمكوّنات كافة، كما تؤمّن لها الحق المطلق في التشريع تحت سقف الدستور الفدرالي ورقابة المحكمة الدستورية الاتحادية، مما ينزع فتيل التوتّر القائم بين الطوائف ويضع حدّا للاستقطاب الطائفي.

تابعنا عبر