ميسم رزق – الاخبار
بعدَ أكثر من عام على فرط التسوية التي قضاها الرئيس سعد الحريري بتقديم «التضحيات» وفقَ المؤيّدين أو «التنازلات» كما يُسمّيها المعترضون، لا يزال هؤلاء يراهنون على الحريري للثأر سياسياً من ميشال عون وجبران باسيل
غيرَ أن «الوعكة» السياسية لشريك التسوية لم تبدأ مع انتخاب عون والتفاهم مع الوزير السابِق جبران باسيل، ولا هي مُرتبطة ببصمه على قوانين «انتحارية» (بالنسبة إليه) كقانون الانتخابات النسبي، أو بالليلة المشؤومة التي استُدعي فيها إلى الرياض واحتُجز وأجبِر على الاستقالة قبل أن يعود عنها بعد تحريره، بل عمرها مِن عمر اعتكافه خارج البلاد اعتراضاً على إسقاط حكومته عام 2010، بدلاً من تعزيز مستوى التماس مع ناسِه، والعمل على تأطير شامِل للبيئة الحاضنة له. في تلكَ الفترة، تأكّد أن جنينية الحالة التنظيمية لتيار المستقبل وتراجع الإمكانات المالية – الاجتماعية وغياب البرنامج السياسي والاقتصادي الواضح، وفشل المشروع الإقليمي – الدولي الذي كان فريق 14 آذار فرعَه اللبناني، حالت دون ملئ الفراغ الذي خلّفه غياب المؤسّس.
منذُ انقلابه على «اتفاق المصالِح» مع التيار الوطني الحر واستقالته مِن الحكومة عام 2019، وصولاً إلى إعادة تكليفه عام 2020، لا تزال المُراهنة جارية في «المستقبل» وجمهوره على الحريري لرد الثأر السياسي من عون وباسيل. اليوم بالنسبة إليهما، لم يعُدّ «العهد» قدراً ولا شرطاً لعودة رئيس التيار إلى الحكم. البلاد في لحظة تحوّل، ومن يُرِد تزعّم الطائفة عليه «استعادة هيبتها في النظام اللبناني». «على الحريري أن يفعَل شيئاً». هو الأمر الوحيد الذي يفهمه المُعارضون له أو الأصدقاء المُعترضون عليه. وهذا «الشيء» ليسَ مواقِف وبيانات وتصريحات. سِجلّه السياسي المليء بأحكام الخيبة، لن ينظَف إلا «بمكاسب ملموسة ينتزعها مِن فمّ العهد، وإلا، فسيبقى أسير ماضيه السياسي».
لا يزال هذا الماضي فحوى النقاشات اليومية عندَ طرف يعتبِر نفسه أنه اقتيدَ من انكسار إلى هزيمة، ومن خيبة إلى يأس. وهناك تبدو الأحاديث المتنقّلة كعملية مراجعة، يعتبِر فيها المعترضون أن «الحريري لم يحمِ يوماً طائفته معنوياً». كيف عليه أن يحميها معنوياً؟ «ميزة القائد هي القيام بدور الجندي في زمن الحرب، أي القتال». كانَ «يُنتظر مِن الحريري أن يردّ على انقلاب فريق 8 آذار عام 2011 بانقلاب آخر، لا أن يغادِر لبنان». النتيجة التي وصلَ إليها تيار «المستقبل» في البلد أسبابها متعدّدة على لسان المعترضين. ماذا منها؟ بشكل عام، يتحدّث هؤلاء عن «الإدارة السيئة للحريري منذ 2009 باعتبارها أساساً في ضرب الدور السنّي في النظام». كل خطوة فيها سقطة. السكوت عن نجيب ميقاتي في السراي الحكومي سقطة «لأنه لم ينجح في إحداث فرق غير لحماية نفسه في الحدّ الأدنى». القبول بتسوية ظرفية أتت بالرئيس تمام سلام سقطة، لأنها «تعويض عن الفراغ الرئاسي». التسوية مع عون سقطة، لأنها «أطاحت كل شعور بالحماية».
لكنَّ ثمّة جانباً شخصياً يتعلّق بالرئيس الحريري أيضاً. صحيح أن الأخير هو جزء من تركيبة البلد السياسية، «لكنه مُختلف». بمعنى أن «زعماء الطوائف جميعهم أو أغلبهم مقاتلون. قاتلوا بزعم الدفاع عن طوائفهم، أو عن قضاياهم، ما يدفع جماهيرهم إلى تقبّل أي تسويات، لأنّ صورتهم في الغالب هي صورة القادة الذين حموا طوائفهم بالدم، بينما الحريري هو الزعيم الوحيد الذي يحتاج الى حماية طائفته». ونقطة ضعفه هي أنه لم يعد يملك الكثير من رصيد والده، الذي استُنفدَ في السياسة، خاصة بعد «تخلّيه عن سلاح المحكمة الدولية في وجه الآخرين»، بحسب معارضيه.
في الكلام الرسمي، دائماً ما يدّعي «المستقبل» وجمهوره أنهم أبناء الدولة ومؤيدون لمشروعها. أما في الخفاء، فيُعبّرون عن افتقادهم معنوياً «لفائض القوة الموجود عند حزب الله وحركة أمل، ولعناد ميشال عون وجبران باسيل، ولـ«عنترة» وليد جنبلاط الذي ليَس في البلاد من يجرؤ مثله على تنفيذ عملية قبرشمون ضد من يريد أن يطأ أرض الجبل دون رضاه».
ومِن لبنان إلى الدول العربية، مساحة بعيدة. قبلَ التسوية بسنوات (تحديداً منذ العام 2012) بدأت المملكة العربية السعودية بتنفيذ عقوبة سياسية ومالية بحق الحريري. بداية بسبب صرف الكثير من الأموال التي تقدّمت بها لمشروع 14 آذار من دون تحقيق أي نتيجة، ولاحقاً بسبب رفضه مواجهة محور المقاومة في لبنان. هذه العقوبة أفقدت تيار المستقبل والطائفة ككل ظهيراً إقليمياً.
الوعكة السياسية للحريري لم تبدأ مع انتخاب ميشال عون
ما عدّده المعترضون على سياسة الحريري من تنازلات، يعتبرها آخرون «تضحيات لإنقاذ لبنان من المستنقع الذي يعاني منه اللبنانيون جميعاً». يشرح رئيس المركز الإسلامي للدراسات والإعلام القاضي الشيخ خلدون عريمط وجهة النظر هذه بتأكيد أن «المسلمين السنّة لا يشكون من القيادة، ولا مِن التشرذم أو الضعف، لأنهم هم أصل الأمة وهم دعاة بناء الدولة الوطنية الحديثة العادلة والقوية». المُشكلة برأيه هي «في الشرائح الأخرى للمجتمع اللبناني التي لم تحسم خيارها نحو بناء مشروع الدولة المستقلة». على سبيل المثال، يذكر الشيخ عريمط الكلام الأخير لباسيل، لأن «ما قاله لا يُشير إلى بناء دولة وطنية جامعة، بل الى حقوق فئة معينة من اللبنانيين، ولا يختلِف كلامه عن سلوك الرئيس عون الذي كنا نريده أن يكون لكل الوطن، لا أن يكون لقسم معيّن من طائفة من طوائف هذا الوطن. منذ البداية تصرف الرئيس عون على قاعدة إما أن تبنى الدولة كما أريد أو لا دولة، وهو يعني عودة المارونية السياسية بقالب عوني باسيلي الى الواجهة، لأن الرئيس عون وصهره رئيس الظل لا يثقان ولا يريان في وثيقة الطائف حلاً، على الرغم من أن الطائف وضع حداً للحرب العبثية في لبنان». «المسلمون السنّة، وعلى الرغم ممّا أصابهم مِن وهن وحصار وضربات متتالية، لم يتكوّن لديهم الفكر أو النزعة الأقلوية، لأنهم مع مشروع بناء الدولة الوطنية الجامعة ونهوضها» يقول عريمِط، مُدافعاً عن الحريري «الذي يحاول أن يُكمل ما بدأه والده الرئيس الشهيد، وإن كانت الظروف قد تغيّرت، لإخراج البلد من المستنقع المذهبي والطائفي والمناطقي». هل ما قدّمه الحريري تنازلات؟ وهل هو المسؤول عن حالة الوهن؟ «خصومه يقولون إنها تنازلات، لكنه يقدم تضحيات لأجل الوطن.
عريمِط: ما قدّمه الحريري تضحيات زادَت عن حدّها المقبول
طبيعي أن هذه التضحيات زادت عن حدّها المقبول، ولا نؤيد المزيد من التضحيات. لكنه يؤكد أنه قدمها ولو على حساب رصيده الشعبي في مقابل الوصول الى مرحلة بناء الدولة القوية بمؤسساتها. لكن التضحيات التي قدمها لم تقابل من الجهة الأخرى بنفس التضحيات. والمطلوب من الرئيس الحريري الصمود والصبر وإيقاف التضحيات. انتخاب عون كان تضحية. والمحاصصة تضحية».
بين المعترضين والمؤيدين، يبقى سؤال عما يملكه الحريري، والواقع الجديد المفروض عليه سياسياً واقتصادياً؟ ما هي الخطوة الكفيلة بعودته إلى الحكم بقوة، ومنها النفاذ الى إنعاش شعبيته المتآكلة؟ في العاطفة يملك «بقايا من المحبة لوالده». في السياسة «ورقة التكليف وكتلة نيابية». في الشارع «يتقدّم على الآخرين باعتباره غير محصور بمنطقة». في المعادلة «لا رديف له حتى الآن». أما في الخارج «فانفتاح غير مكتمل، وقد لا يكتمل في حال استمرّ على المسار ذاته، أو لم يكُن قادراً على حمل عناوين المرحلة المقبلة في لبنان والمنطقة».
ما تقدّم من ملاحظات لم يعد حكراً على المعترضين على أداء الحريري. فالرئيس المكلّف بات يرى أيضاً أن السَنة التي تفصل عن الانتخابات النيابية المقبلة، ستكون مخصصة للثأر. ليس الثأر من العهد والتيار الوطني الحر، بقدر ما هو ثأر من أدائه السابق مع عون وباسيل. سَنة المعركة مع الخصم الأوحد، جبران باسيل، علّه بذلك يرمم شيئاً من حضوره الشعبي، أو على الأقل، يوقف الانهيار الذي أصاب الحريرية وتيارها.