غادة حلاوي – نداء الوطن
وتعطلت لغة الكلام بين الرئيس المكلف سعد الحريري وحلفائه على الضفتين. الحريري اليوم “لا مع ستي بخير ولا مع سيدي بخير” يكفي ما قاله رئيس “الحزب الاشتراكي” وليد جنبلاط ليفصح عن فيض من الغيظ الكامن في داخله نتيجة سلوك الحريري. ويكفي سؤال رئيس مجلس النواب نبيه بري عن “الداعي لتأخير الحكومة” للكشف عن استيائه من تأخير لم يعد له مبرر. سبق وبذل بري مساعي عدة لانقاذ الحريري ودفعه باتجاه تسريع التشكيل وكلها باءت بالفشل.
صارت الحكومة في خبر كان. على هذا الاساس يتعاطى الاطراف المعنيون بالتشكيل والسبب ان الحريري لا يزال يوارب، معلقاً الآمال على الادارة الاميركية الجديدة لتحرره من ضغوطات الادارة الحالية بحسب ما يقول خصومه. لم يعد سراً ان الرجل مهدد بالعقوبات وفي ظنه أن افضل فترة ممكنة لتشكيل الحكومة تكمن عند تسلم جو بايدن الحكم. لم تعد وعود الحريري تنطلي على أحد ولو كانت نيته سليمة لكان يمكن ان يشكل حكومته فيما ادارة ترامب تتلهى بالانتخابات ونتائجها.
لم يعد الخلاف المحصور بين رئيس الجمهورية ميشال عون والرئيس المكلف وحده يعرقل التشكيل. ثمة تعقيدات متشعبة سببها المباشر ارتباك الحريري وكثرة وعوده وخشيته من التعرض لعقوبات، بالمقابل لم يعد يعيش العهد أسير انقاذ سمعته بتسجيل انجاز ولو كان حكومة، يدير البلد من اصغر تفصيل الى أكبره ولن يسمح بأن يخرج رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل وحده المدان الذي يتحمل مسؤولية تدهور الوضع والفساد. عرف عون كيف يستثمر اخفاقات الحريري واخطاءه مسيحياً. سلمه لائحة بأسماء وزراء مسيحيين فرفض، انتظر وخرج بعد ان تقصد عون افهامه ان الزيارة انتهت اذا كانت على هذا المنوال. عرف عون كيف يستثمر تصرفات الحريري مسيحياً، بدليل قول البطريرك الراعي بعد زيارته الاخيرة الى بعبدا “الحكومة لا تشكل بالتقسيط”.
وليس وضعه على الجبهات الاخرى أفضل وأقل تعقيداً، منذ تكليفه لم يثبت على وعد قطعه لأي طرف وعندما يقول جنبلاط “لعب الاولاد في التحاصص بين ميشال عون وسعد الحريري مهزلة وأعتقد بالقليل الذي نسمع ان العرقلة بينهما”، فهو يغمز من قناة الخلاف بين الحريري وباسيل على خلفية ما بينهما من ملفات سبق واتفقا عليها.
منذ الاتصال الشهير الذي انتهى على زعل تولى الوسيط وائل ابو فاعور نقل خطوات تشكيل الحكومة الى جنبلاط الى ان وقعت الواقعة بينهما أخيراً، بعد تبلغه من الحريري مباشرة عرضاً باحتساب الخارجية او السياحة من حصته في الحكومة. تواصل جديد انتهى على زعل ايضاً. ليكون هذا هو العرض الثالث الذي يتلقاه جنبلاط من بعد التربية ثم الخارجية الى ان انتهى بالسياحة. تلك المزحة السمجة التي لم يهضمها رئيس الاشتراكي كما لم يهضم عدم ثبات الحريري على موقف او التزام.
متقلب هو التوصيف الذي يستعيض عنه حلفاء الحريري او شركاؤه في التأليف عن لفظ أكثر قساوة. يلتقي أكثر من طرف على الملاحظات ذاتها، يتقدم الحريري بعرض ثم ينقلب عليه ويستبدله بعرض آخر. في نظر الاشتراكي كما غيره من الاطراف ان حقيبة الخارجية افرغت من مضمونها وفي المرحلة الاكثر حساسية من تاريخ المنطقة لا يخرج شاغلها بأكثر من العداوة مع كل الاطراف، أما السياحة فتلك هي الاضحوكة بذاتها. في تبريره يقول الحريري انه لم يعقد اتفاقاً مع اي طرف لغاية اليوم وانه يحصر البحث برئيس الجمهورية، لكن كلامه هذا لا يتماشى مع ما صرح به بري أخيراً من انه سلم الحريري 20 اسماً ليختار من بينها كما أنه سبق ووعد “حزب الله” بحقيبتي العمل والاشغال اي انه يتواصل مع الجميع، واذا كان الحريري اتفق مع الثنائي الشيعي فلمَ لا يتفق مع “الاشتراكي”؟ العبارة ذاتها تسمعها من “التيار الوطني الحر” الذي يعتبر ان كلام جنبلاط فضح الحريري وأكد ان الرئيس المكلف يقدم صيغاً وحصصاً للجميع ويستثنيهم.
في تقدير “الاشتراكي” ان الحريري يلعب على 600 حبل مقابل عودته إلى رئاسة الحكومة. سجن نفسه في قفص لا هو قادر على التقدم ولا على الانسحاب وسجن البلاد معه. مرعوب الحريري من العقوبات الاميركية ومقيّد بسببها، وينقل خصومه أنه كلما فاتحوه بأمر ما كان جوابه “دخيلكم هيدي بتأثر عليي برا وهيدي ما بتصير”.
ثمة من ينصح الحريري بوجوب الاقتناع باستحالة أن يرضي “حزب الله” والاميركيين دفعة واحدة، أو ان يرضي فرنسا واميركا معاً، أو ان يرضي السعودية و”حزب الله” في الحكومة ذاتها او الامارات والسعودية و”حزب الله”. يجب ان يحدد خياراته. عندما ترشح لم يستشر احداً واراد رئاسة الحكومة في زمن المفاوضات حول الثروة النفطية ويقول البعض انه اتفق مع كوشنير على استثمار هذه الثروة مقابل مبالغ مالية ضخمة. خابت حساباته وتغيرت الاوضاع وانقلبت. حتى رهانه على ازاحة حكومة حسان دياب خاب، سواء قبل ام لم يقبل فالواقع يقول ان دياب لا يزال مقيماً في السراي الحكومي ولو ان الاخير قال لأحد زواره متهكماً قبل ايام “شالوني وراحوا يطلبوا مني تفعيل الحكومة”.
حتى “حزب الله” المستنفر تحسباً لاي اعتداء محتمل تنفذه ادارة ترامب بالتعاون مع الاسرائيلي لم يعد يحتل ملف الحكومة مقدم اولوياته، وفي اعتقاده ان الرئيس المكلف لو اراد لشكل حكومته واجرى تواصلاً مع كل الاطراف لأجل ذلك. وعلى هذه الحال ترك الحريري لقدره والكل يسجل نقاط الربح والخسارة في حساباته الطائفية، فيما البلد يستعد للدخول في أزمة أشد وأعمق اذا ما استمرت الحال على ما هي عليه.