منير الربيع – المدن
وتورّم الأنا يصيب مسؤولين وسياسيين وأحزاباً عرّابها قائد ملهم، يتوهم تضّخم دوره وفاعلية وتأثيره، من دون أن يفعل شيئاً، سوى حسبانه أن الله منَّ به على شعبه. أو أنه شمس تدور حوله الكواكب.
وقد يصيب المرض بلداناً. ومثالنا عليه لبنان الذي يعيش في وهم قاتل: وهم الدور والموقع. وما أحوج لبنان واللبنانيين إلى علاج هذا الداء. ربما بإعادة قراءة التاريخ اللبناني خارج المنهج التربوي، وخارج “الحربقة” اللبنانية، التي تدّعي تفوقاً مزيفاً على كلّ أبناء المعمورة.
هل تذكرون “يوسف قليقل وعبارته داوخ العالم ريمون”؟ وهو دور يؤديه فادي رعيدي ببراعة. هي عبارة هزلية بسيطة، لكنها تحاكي العمق النفساني للبناني: توهم تضخم الدور. وقد ساهمت الأوهام في سحق لبنان، الذي لم يسحقه إلا أبناؤه قبل سياسييه. وذلك في نظرتهم الاستعلائية، من دون امتلاكهم تلابيب الأمور أو القضايا التي يتفوهون فيها.
ليست هذه المقالة درساً نظرياً أو أخلاقياً. لكن باعثه الحاجة إلى التفكّر والتبصر في ما آلت إليه أحوال شعب كان يظنّ أنه شعب الله المختار. وأن أحداث العالم تحدث لأجله. ويتعرض لمؤامرات تستهدف فرادته وإبداعه.
ألا يمكن أن يكون الوهم منبع المصيبة التي نحن فيها اليوم؟ مرفأ بيروت دمر بمواد جاءت بها شركة وهمية. وشحنات المخدرات التي يصدّرها لبنان أو تمر عبره إلى أرجاء الكرة الأرضية أسماء شركاتها وهمية.
هل في هذه الوهمية شيء من ذلك التوهم؟ أم أنه الحقيقة الوحيدة؟
غرق البلد في أوهام شرّعته على الخيبات. خسر النظرة الواقعية إلى حقيقة الواقع. وفي هذه الحال يسهل تقاذف المسؤوليات، أو إلقاء الملامة على “المؤامرة” الكونية التي نتعرض لها.
الحسابات في المصارف كانت وهماً متضخماً: أرقام وأرباح على دفاتر البنوك، استحالت أوهاماً وتبخرت. دور المرفأ والترانزيت استفاق على واقع نهايته. وهناك دول وجهات تدرس إغلاق كل المنافذ والمعابر على لبنان.
هكذا أضحت معابرنا أو حدودنا، براً وبحراً، جنوباً وبقاعاً وشمالاً، وهمٌ. جماركنا وهم أو خيالات. الدستور والميثاق والقضاء والحكومة وكل ما كان يصنع بلداً راح يتلاشى ولم يبق منه سوى “وهم” هائل يليق تماماً بـ”عهد” الواهم والموهوم.
تدقيق جنائي بالغ الوهم. استعراضات قضائية لبيع الوهم. مؤتمرات صحافية للبطولات الوهمية. مفاوضات مليئة بخرائط الوهم. تشكيلات حكومية من شخوص الوهم. وليس آخرها الدفاع عن حقوق وهمية ماتت بحرب 1975 ودفنت في حربيّ وهم التحرير ووهم الإلغاء.
من كان يتخيل هذا؟
من كان يتخيل أن همزة وصل الشرق بالغرب، أضحت مقطوعة أو في القطيعة؟! أو أضحت ممزقة. وهناك من يريد التوجه شرقاً (وهذا من أكبر الأوهام)، ما دام التهريب ممتنعاً إلى الغرب.
ومن كان ينبذ الشرق ولا يرى غير الغرب أفقاً رحباً، بمفعول رجعي اسمه اللبنانوية الفينيقية، كان يتعالى على العرب، وها هو يتزلف عارياً مكشوف العورات والعيوب.
وهناك من يغوص في مستنقع وهمه فيخترع تسميات جديدة يتوهمها أدواراً جديدة: “التأسيس لسوق مشرقية”، بين مجموعة دول من الهلال الخصيب المهترئة الدامية، ويُسمع أنين جوعها أو معذبيها وقتلاها.
وهناك من يريد تعليم أميركا وبريطانيا كيف تديران شؤونهما المالية بلا موازنة. إنه حليف المقاومة، ومريد تأسيس شركة لإدارة ثروات البحر بين لبنان وإسرائيل. وهو صاحب نظرية التيار الشيعي الثالث، والتيار السني الثاني، والدرزي الثاني. عرّاب الحوارات، وزير سابق، خاضع لعقوبات يعصى عليه تجاوزها، فيوهم نفسه بأن استقباله وزير خارجية أصيل من بلاد المجر، يخلصه من العزلة. والوزير المجري معروف بيمينيته، بل بنازيته، فأعرب هذا العنصري عن رفضه التعامل مع الحزب المسيحي الأكبر في لبنان بسياسة الإملاءات والضغوط.
وزير خارجية هنغاريا يفك عزلة وزير خارجيتنا السابق. والرجل “مسؤول دولي رفيع”، وصف اللاجئين بالغزاة والحيوانات ذات يوم، ومتهم بملفات فساد وبتدمير الديموقراطية.
وفي القصر اجتمعت الأوهام كلها. قصر الشعب أو قصر الجمهورية. والاجتماع للبحث في تداعيات قرار السعودية وقف دخول الخضر والفاكهة اللبنانية إليها، وعبورها فيها. والتحقيقات تفيد بأن الشركة التي صدّرت شحنة المخدرات وهمية. كأنما بين لبنان والوهم قِران لا ينفصم، ولا شفاء منه.
ولا بأس من الغوص في الحلم أكثر، والعيش بتجلي الوهم: لا مشكلة في الاقتصاد، ولا في الواقع الاجتماعي والمالي. وتسوية سياسية ما تعيد الأمجاد للجميع. تعيد اللعبة إلى قواعدها وأولها، هكذا برفّة عين أو هدب. ويخرج النفط من قاع البحر، وتحمله قوارب هنيبعل، وتمر به قبالة حقول أفروديت في مصر.
ألم يدعنا أحدهم قبل أيام إلى إنشاء منتدى نفطي، في مقابل منتدى غاز شرق المتوسط؟
لبنان عالة على المجتمع الدولي. تتقاذفه أوهام بعض “أسياده”، وتتضاربه مصالح من البحر ومن البرّ، جنوباً وشمالاً، غرباً وشرقاً. وهو عاجز عن ترسيم حدوده، وعن تشكيل حكومته.
مرصود في عين العقوبات الأميركية والأوروبية. محكوم بأطماع جيوستراتيجية. وبقصور نظر حكّام يتوهمون انتظار التسوية الإيرانية – الأميركية، والإيرانية – السعودية، فينهمر عليهم المن والسلوى.
تماماً كما كان الصرف بلا حساب سابقاً، والرهان على سدّ العجز من مردود النفط.. فسقط الهيكل فوق رؤوس الجميع.
ويبقى هو وأتباعه و”وريثه” في قصر الخيالات.. وقد أحالوا السياسة والإدارة والثروة والاقتصاد والجمهورية والقوانين إلى كتلة من أوهام، يقتاتها اللبنانيون سُمّاً قاتلاً.