المزيد من المستندات
حرب مستندات طاحنة دارت بين وزارة المالية ومصرف لبنان، حول ما يتوجَّب على المركزي الكشف عنه. وفي خضمّ الحرب، جرى استدعاء سيلٍ من التراشق السياسي المناهض لحاكم المركزي رياض سلامة. وبنظر المالية، فإن سلامة لم يفرج سوى عن 42 بالمئة من المعلومات التي طلبتها شركة التدقيق، فيما حجبَ 58 بالمئة. الأمر الذي يٌعتَبَر مماطلة واضحة تهدف لعرقلة عمل الشركة. وكان من المفترض خلال اجتماع الثلاثاء، أن تبتّ الشركة بقرار بقائها أو عزوفها عن متابعة مهمّتها. إذ ليست المرة الأولى التي تواجه فيها عقبات في الحصول على المستندات المطلوبة.
خلص الاجتماع الافتراضي الذي عقد عبر تطبيق “زووم”، إلى تحديد مهلة زمنية ذهبية، تبدأ من يوم الجمعة 9 نيسان، وتمتد حتى نهاية الشهر الجاري. يؤمّن خلالها المصرف المركزي “قائمة محدثة للمعلومات في مدة أقصاها نهار الجمعة الواقع في 9/04/2021 ويحدد المستندات التي يتطلب تحضيرها وقت أطول من نهاية شهر نيسان الحالي. ويسلّمها لمفوّض الحكومة لديه. ويباشر المركزي بتجميع المستندات المطلوبة لكي تكون متاحة لمفوض الحكومة على أن يتم تسليمها إلى الشركة عند إعادة تفعيل العقد معها”. كما اتفق المجتمعون على “استمرار التواصل من أجل إعادة تفعيل ملف التدقيق الجنائي وتقييم التطور الحاصل تباعاً”.
والملفّات المطلوبة بموجب لقاء اليوم، تتعلّق بـ”حركة مؤسساتية بين حسابات المركزي والمصارف اللبنانية، وهي ليست حركة حسابات أفراد”. وفق ما تقوله مصادر متابعة للملف، خلال حديث لـ”المدن”. فالكشف عن حسابات الأفراد يحتاج إلى “رفع السرية عن تلك الحسابات، بموافقة المصارف وبقرار من هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان”، وهو ما لم يُحسَم بعد.
وتضيف المصادر، أنه “حتى لو أعطى مصرف لبنان معلومات عن حركة حسابات المصارف، فلن نصل إلى أي مكان، لأن التدقيق في حركة الأموال عبر المصارف لا توضح أين اختفت الأموال العامة”.
هدوء قبل الموت
لتجميع المستندات، صورة غير سارّة في أذهان اللبنانيين، فهي دليل أكيد على نيّة المماطلة وتمييع القضايا قبل دفنها نهائياً. وأقرب مثالين على ذلك، هما مستندات النائب حسن فضل الله، وتحقيقات تفجير مرفأ بيروت. فلا الأولى نَطَقَت بأسماء الفاسدين وأفعالهم، ولا الثانية اقتربت من المرتكبين الحقيقيين. فالقول بتجميع المزيد من المستندات للافادة منها في التحقيق الجنائي، يفضي للمزيد من المماطلة، خاصة وأن المطلوب يتركّز على مصرف لبنان فقط ويتجاهل وزارات ومؤسسات الدولة، وكأن المسألة تنحصر بحركة الأموال داخل مصرف لبنان، أو على أبعد تقدير، حركة الأموال بين المركزي والمصارف التجارية، وفي ذلك تبسيط مقصود لجوهر التدقيق الجنائي.
ومن هُنا، تؤكد المصادر أن حصر مسألةٍ مهمة ومُستَعجَلة ومعقّدة بهذا الحجم، في سياق تجميع المستندات من جهة واحدة، “يعني أمراً مِن اثنين، إما أن الطبقة السياسية حسمت قرارها بتضييع بوصلة التدقيق، وإما أنها، وشركة التدقيق، يفتقران للكفاءة”. وفي الواقع، الخياران يحملان جزءاً من الحقيقة.
تدقيق سياسي
تراجعت حدّة السجالات بين المالية والمركزي. رَكَنَ كلٌّ منهما إلى زاويته وتَرَكَ الأمور تسير وفق الروتين الإداري الذي اعتادته أروقة مؤسسات الدولة وأجهزتها. وقد التَمَسَ سلامة بعض الارتياح نظراً لوضوح المغزى السياسي من التدقيق. فإن كان بعض أطراف المنظومة يريدون الاطاحة به، فالبعض الآخر يريد حمايَتَه، ليغطّي على ارتكاباته من جهة، وتطبيقاً لقاعدة “عدّو عدوّي صديقي”، من جهة أخرى. كما أن إدراك سلامة لعدم نيّة المنظومة كشف الفساد بشكل فعلي، يعني استمرار اللعبة بقواعدها السابقة، إلى أن تخلق التسويات واقعاً جديداً.
شركة التدقيق لم تعد على عجلة مِن أمرها. فعملها ليس إلاّ استثماراً قد يطول أمده وقد تتحسّن شروطه المالية يوماً ما، طالما أن المنظومة باقية. وكلّما أرادت المنظومة تمييع التدقيق وتوجيهه بما يخدم مصلحتها، كلّما زادت فرص الشركة بتحصيل النقود ولو بعد حين. فلربما تدخَّلَ المجتمع الدولي لاحقاً لفرض الحصول على الأموال أو محاصرة المنظومة بالشروط القاسية، وهذا بحث آخر.
“طلب المزيد من المستندات وحصر المسألة بمصرف لبنان، غايته “إشاحة النظر عن السرقات الموصوفة التي لا يظهرها سوى التدقيق بحركة المشاريع العامة والصفقات والإيرادات المهدورة بين أروقة الجمارك والعقود مع مؤسسات تدير أموال الدولة، كشركتي الخليوي على سبيل المثال”. فالوصول إلى تدقيق صحيح يجب أن يمر “بتدقيق أرقام كل نفقة عقدتها الدولة. وأرقام فوائد الدين العام التي تشكّل ثلث أعباء الموازنة العامة. وأيضاً بتدقيق المبالغ التي دفعت لشراء محروقات مؤسسة كهرباء لبنان وتمويل مشاريع وزارة الطاقة.. وكلّها أمور نراها خارج مصرف لبنان”.
لإجراء تدقيق مفيد، يجب النظر إلى طبيعة المَهَمَّة المطلوبة وطريقة إدارتها. والمهمة التي بين أيدينا، تحمل غموضاً في طبيعتها. أما طريقة إدارتها، فبعيدة عن الشفافية، وغارقة بالنوايا السياسية المبيَّتة، تهدف لإسكات الرأي العام ولتصفير مسؤولية أركان المنظومة عمّا جرى خلال 3 عقود. فالكل متورّط بما يجب التدقيق فيه، بدءاً من مجلس النواب الذي لم يراقب ولم يحاسب أي حكومة من الحكومات المتعاقبة، فيما الأجهزة الرقابية تحمل الجزء الثاني من المسؤولية، نظراً لعدم قيامها بمهامها، فلا ديوان المحاسبة ولا التفتيش المركزي ولا النيابة العامة المالية شهدت أي تحرك فعلي لكشف ملفات الفساد وحماية المال العام. فهل تخضع تلك الأجهزة للتدقيق الجنائي أيضاً؟.