تحت عنوان “البواخر الفخمة بين ضفتي الأطلسي، جمالية جديدة”، افتتح أخيرا معرض كبير في متحف الفنون الجميلة في مدينة نانت، التي لعبت بسبب قربها من المحيط الأطلسي دورا مهما في التجارة البحرية الأطلسية بالأخص منذ مطلع القرن الثامن عشر.
يتناول المعرض من خلال مجموعة كبيرة من الملصقات واللوحات والصور والتجهيزات، قصة ظهور البواخر الفخمة لتأمين السفر بين أوروبا والقارة الأميركية عبر الأطلسي خلال السنوات الممتدة بين الحربين العالميتين وبالتحديد بين عامي 1913 و1942.
على متن الباخرة
في تلك السنوات لم تكن الطائرات قادرة على نقل المسافرين بين القارتين، فنشأت البواخر الفخمة والضخمة لتأمين السفر بصورة منتظمة وسليمة، وتنافست الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا على بنائها ومن أشهرها “تايتانيك” التي لم تقم إلا برحلة واحدة عام 1912 بسبب اصطدامها بجبل جليدي.
لا يتوقف المعرض عند حكاية الـ”تايتنك”، بل كيف مثّل بناء البواخر المعابر منذ عام 1913 حدثا كبيرا للمهندسين والفنانين والمصممين والمصورين والكتاب في النصف الأول من القرن العشرين، بما رمزت إليه من تقدم علمي وتقني جعل منها قصورا عائمة على المياه.
بالنسبة الى الدول الأوروبية كانت صناعتُها مصدرا للاعتزاز الوطني، أما بالنسبة للولايات المتحدة فكانت تجسد الانجذاب نحو أوروبا، بما ترمز إليه من تاريخ وثقافة وفنون، خاصة أن الحداثة الفنية نشأت في القارة القديمة وبالتحديد في باريس. وفي عام 1913 أٌقيم في نيويورك معرض كبير للفن الحديث حقق نجاحا كبيرا وعكس اهتمام الفنانين الأميركيين بتيارات الحداثة الأوروبية وروادها، ومنهم الاسباني بابلو بيكاسو والفرنسي هنري ماتيس، وكانا على علاقة وثيقة مع الكاتبة الأميركية المقيمة في باريس جيرترود ستاين منذ مطلع القرن العشرين.
كانت البواخر الكبيرة الفخمة، بتصاميمها وهندستها، من رموز الحداثة الفنية والأزمنة الجديدة. يشرف على عمارتها مهندسون معروفون، بالتعاون مع مصممين وفنانين في ورش بناء ضخمة تختزل أحدث التقنيات والأساليب الهندسية، ومن أشهرها “كوين ماري” البريطانية عام 1934 و”أوروبا” الألمانية عام 1928 و”نورماندي” الفرنسية عام 1935.
وكانت تُنظم الحملات الدعائية في الصحف والمجلات للترويج لهذه البواخر، كما تظهر أيضا في الملصقات وفي الصور الفوتوغرافية التي نشاهد نماذج بديعة منها في المعرض.
بهرت هذه البواخر المعماريين والفنانين التشكيليين الطليعيين ومنهم رائد العمارة الحديثة السويسري لوكوربوزييه (1887-1965) والمصممة الإيرلندية آيلين غراي (1878-1976) والمعماري والمصمم الفرنسي روبير مالي ستيفينز (1886-1945). رأى هؤلاء الرواد أن هذه البواخر بعمارتها الخارجية وتصميمها الداخلي، تشهد لولادة جمالية معمارية جديدة تستحق الثناء.
من جهة أخرى، يؤكد المعرض أن البواخر الأطلسية عكست أسلوب حياة، من ميزاته الراحة والاستجمام وفخامة المكان والمطاعم الجيدة المؤمنة للمسافرين على متن الدرجة الأولى. كانت إدارة البواخر تُعهَد الى فنانين معروفين بتزيين الصالونات منهم الفرنسي جان دوبا (1882-1964) الذي أشرف على ديكور العديد من البواخر ومنها باخرة “نورماندي” الشهيرة. كما تم صنع نماذج صغيرة من هذه البواخر يشتريها المسافرون الأثرياء كذكرى. أثناء السفر، وتماما كما فيلم “تايتنك”، يُعرَض على الركاب العديد من الأنشطة لتمضية الوقت فتتحول المساحات الخارجية المطلة على المحيط الى ميادين لألعاب مختلفة، منها التنس.
تطالعنا في المعرض الصور بالأبيض والأسود التي تشهد لتحول الباخرة الأطلسية في عشرينات القرن الماضي وثلاثيناته الى مختبر للحياة الحديثة حيث يستمتع الناس بأشعة الشمس ويمارسون الرياضة مرتدين الملابس المخصصة للنشاطات البدنية كملابس السباحة والشورتات. وفي حفلات العشاء وعلى أنغام عازفي الموسيقى، يرتدي الأثرياء ملابس من تصميم أرقى دور الأزياء. باختصار كانت البواخر الأطلسية جسرا يربط بين قارتين، والمسافرون يعيشون أيامهم بعيدا من أوروبا والولايات المتحدة كأنهم بلا وطن فوق سطح المياه.
مع صعود النازية التي مهدت للحرب العالمية الثانية، سافر العديد من الفنانين من فرنسا على متن البواخر الأطلسية ومنهم السورياليون بحثا عن الحرية وهربا من الأنظمة الفاشية. لم تعد الحياة اليومية على متن الباخرة مرادفة للفرح والتسلية كما كانت في السنوات السابقة، بل عكست ألم الهجرة والخوف من المستقبل كما في أعمال الفنانة الأميركية كاي ساج (1898-1963) التي كانت مقيمة في باريس وقررت مع اندلاع الحرب العالمية العودة الى الولايات المتحدة