كتب إيلي القصيفي في “أساس ميديا”:
منذ 5 تموز الماضي لا ينفكّ البطريرك بشارة الراعي يردّد بأشكال وصيغ مختلفة ثلاثيّته الداعية إلى تحرير الشرعية وتطبيق وثيقة الوفاق الوطني والقرارات الدولية ذات الصلة، بوصفها الثلاثيّة اللازمة للخروج من الأزمة السياسيّة والاقتصادية.
هذه الثلاثيّة، إلى جانب الدعوة إلى حياد لبنان وطرح قضيّته في مؤتمر دوليّ، كانت ولا تزال الإطار السياسي للخطاب البطريركيّ، وذلك في ضوء اشتداد الأزمة السياسية المتمثّلة بتعطيل تشكيل الحكومة، مع ما يستتبع هذا التعطيل من تفاقم للانهيار المالي والاقتصادي الخطير بكل المقاييس الاجتماعية والأمنية والوطنية.
لذلك انصبّ تركيز البطريرك على استعجال تشكيل الحكومة وحثّ المسؤولين عن تأليفها دستورياً، أي رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المكلّف، على التعجيل في تشكيلها. لكن البطريرك في المقابل لا يريد حكومة تُؤلّف كيفما كان، بل حكومة دستوريّة لا ثلث معطِّلاً فيها لأيّ طرف، تبعاً لقوله في عظته في عيد الفصح إنّ “الثلث المعطّل غير موجود أساساً لا في الدستور ولا في الميثاق”.
تعبير البطريرك، في عظته أمس الأحد، عن خشيته من أن “يكون القصد من تعطيل تشكيل الحكومة هو الحؤول دون أن تأتي المساعدات لإنقاذ الشعب من الانهيار المالي”
لذلك أصبح السقف السياسي، الذي حدّده البطريرك لحركته السياسية، والذي احتشد من أجله الناس في 27 شباط الماضي، يلقى ترجمته العملية في مواقف الراعي الرافضة تكراراً لتعطيل تشكيل الحكومة، بوصف هذا التعطيل مقصوداً من جانب الائتلاف الحاكم المتمثّل بالعهد وحزب الله.
وليس قليل الدلالة، في هذا السياق، تعبير البطريرك، في عظته أمس الأحد، عن خشيته من أن “يكون القصد من تعطيل تشكيل الحكومة هو الحؤول دون أن تأتي المساعدات لإنقاذ الشعب من الانهيار المالي”. ثمّ قوله في العظة نفسها إنّه “حريّ بجميع المعنيّين بموضوع الحكومة أن يكفّوا عن هذا التعطيل من خلال اختلاق أعراف ميثاقية واجتهادات دستورية وصلاحيات مجازية وشروط عبثية، وكل ذلك لتغطية العقدة الأم، وهي جعل البعضِ لبنانَ رهينةً في الصراع الإقليمي – الدولي”.
يصوّب الراعي، في كلامه هذا، باتجاه الرئيس ميشال عون وحزب الله معاً. فبحديثه عن “الصلاحيات المجازية”، ينتقد البطريرك كلام عون عن محاولة الرئيس المكلّف المساس بصلاحيات رئيس الجمهورية. ويصبّ كلامه عن “اجتهادات دستورية” و”شروط عبثية” في الاتجاه نفسه، أي اتجاه الرئيس عون والنائب جبران باسيل، الذي بات الشرق والغرب يعبّر عن ضيقه من شروطه التعجيزية في تأليف الحكومة.
هكذا يبدو الراعي سدّاً مسيحياً منيعاً أمام اوهام جبران باسيل، وأمام المعارك الوهمية التي يصطنعها الرئيس عون، مقدّماً عربة مطالبه، على حصان الحكومة. وآخر تلك المعارك “التدقيق الجنائي” من جهة، وإعادة ترسيم حدود مطالب لبنان البحرية من جهة أخرى، في ظلّ حكومة مستقيلة لا يحقّ لها اتّخاذ قرارات من هذا النوع.
يجدر التذكير بأنّ الراعي سأل في عظته الفصحية: “ماذا نقول عن الذين يعرقلون تشكيل الحكومة ويفعلون ذلك ليوهموا الشعب بأنّ المشكلة في الدستور؟”. وهو بذلك يردّ على منطق العهد والحزب الذي يصوّر المشكلة الحكومية بأنّها مشكلة دستورية متأتّية من التباس صلاحيات رئيس الجمهورية والرئيس المكلّف. وكان دعا السيّد حسن نصر الله صراحةً في 19 آذار إلى تعديل الدستور لتوضيح صلاحيات كلا الرئيسين.
من المتوقّع أن يشهد لبنان في الأيام والأسابيع المقبلة تسخين المعركة السياسيّة المتّصلة بتشكيل الحكومة، بسبب ردّ العهد والحزب على الضغط البطريركي المتزامن مع الضغط الأوروبي والعربي لاستيلاد حكومة سريعاً لعلّها تكبح جماح الانهيار
ولذلك قصد البطريرك، في عظته أمس، التأكيد أنّ العقدة الحكومية الأمّ تكمن في كون الائتلاف الحاكم جعل لبنانَ رهينةَ الصراع الإقليمي والدولي. وقد أراد البطريرك القول إنّ ما يحول دون تأليف الحكومة ليس الدستور، كما يقول العهد والحزب، بل تحويلهما لبنانَ ورقةً في الكباش الإيراني الأميركي المرتبط بالمفاوضات النووية الإيرانية.
كلّ هذا المسار السياسي البطريركي أوجد خطاباً سياسياً وطنياً شاملاً بديلاً عن ذلك الذي يقدّمه العهد والحزب. ومن هذه الأمور التدقيق الجنائي الذي أعاد الرئيس عون طرحه الأربعاء الماضي في أوج الحراك العربي اتجاه لبنان، الداعي إلى تشكيل حكومة بالارتكاز على اتفاق الطائف. وكأنّنا بعون يحاول تبديل الأولويات الوطنية المتمثلة بتشكيل حكومة، وحرف الصراع عن وجهته الحقيقية.
لذلك سارع البطريرك، أمس، للردّ على هذا الطرح بالقول: “إنّ جدّية طرح التدقيق الجنائي تكون بشموليّته المتوازية لا بانتقائيّته المقصودة”، قاصداً أن يشمل التدقيق الوزارات، وبالطبع أهمّها وزارة الطاقة “العونية” في ملياراتها الخمسين التي ضاعت ثمناً لـ”العتمة” التي يعيشها لبنان.
وتابع البطريرك حاسماً: “وأصلاً، لا تدقيق جنائياً قبل تأليف حكومة”. وقال إنّه “من دون حكومة، كلّ كلام يبقى باطلاً”. فأعاد البطريرك، بكلامه هذا، تشكيل الحكومة إلى قائمة الأولويات الوطنية، بخلاف ما ذهب إليه عون الأربعاء، من فتح زواريب “تدقيقة” لا طائل منها ولا لزوم لها في المرحلة الحالية.
وهذا ما يفسّر غضب العونيين من الراعي، ومسارعتهم إلى إصدار هاشتاغ “راعي الفساد”، في إشارة مبكرة منهم إلى تجديد التيار الوطني الحرّ حملته على البطريرك ضمن خطّته التصعيدية في أعقاب كلمة عون التي ألقاها الأربعاء، والتي كان أحد أهدافها تعبئة العونيين. وقد بدأت بشائر هذه التعبئة باعتداء ما يسمّى “الحرس القديم” على منزل الممثّل أسعد رشدان في عمشيت، لأنّه يتبنّى مواقف سياسية معارضة للتيار.
ومن المتوقّع أن يشهد لبنان في الأيام والأسابيع المقبلة تسخين المعركة السياسيّة المتّصلة بتشكيل الحكومة، بسبب ردّ العهد والحزب على الضغط البطريركي المتزامن مع الضغط الأوروبي والعربي لاستيلاد حكومة سريعاً لعلّها تكبح جماح الانهيار الذي سيجعل لبنان بؤرة عدم استقرار جديدة في المنطقة، في وقت يسعى العرب والغرب إلى تقليص بؤر الاضطراب الإقليمية.