
2. أَنا وأَبي
يحاول البعضُ إِعلاءَ مجدي وشهرتي بالقول إِنَّ أَبي يوهان ليس والدي، بل إِنني ابنُ ملك ﭘْــرُوسيا فردريك الثاني الكبير (1712-1786) وكان ملك ﭘـــروسيا من 1740 حتى وفاته.
غريبٌ هذا الأَمر! والأَغربُ أَنني لـم أَنْفِ هذه الشائعة، مع أَنها تُحرجُ سُـمْعةَ أُمِّي. والسبب أَن أَبي حفرَ بي جراحًا معنويّةً عميقةً تَـجعلُني لا أَردُّ الشائعات، ولا أُمانع أَن أُبادلَه أَبًا بـمَلِك.
غالبًا ما نذكُر الوالد بـحنانٍ وحنين، ونَتَذَكَّرهُ بسُلطته الحريصة وعطاءاته وتشجيعه وتضحياته.
والدي مثالٌ سيّئ لا يحتذى
الوالدُ، عادةً، مِثالٌ به يُقْتدى. فموزار (1756- 1791) كان والدُهُ ليوﭘـولد (1717-1787) عازفًا ومدرّس موسيقى، وأَنشأَ ابنَهُ على العزف منذ طفولته الأُولى. من هنا أَنه كان نموذجيًّا: سهرَ على تنشئَة ابنه، درَّبه طفلًا على الـموسيقى، أَتاح له تنميةَ موهبته، هيَّأَ لإنضاجها أَفضل الظروف، ونظَّمَ له عددًا من أُمسيات العزف في أُوروﭘَّـا لتوسيع شهرته.
أَبي كان عكسَ ذلك تـمامًا. أَجبرني سُلوكُه الشرس على ذِكْره بعباراتٍ غيرِ لائقة. كان عازفًا فاشلًا، وسِكِّيرًا أَنانيًّا مُدمنًا. تزوَّج والدتي ماريا ماغدالينا، وكانت ابنة طبَّاخٍ وأَرملة خادم. هذا الزواج غير الـمتكافئ أَثار غضبَ جَدِّي لودﭬـيك. لكنّ أمي كانت امرأَةً طيِّبة ومُـحِـبَّة ومُسالِـمة الطبع. تَـحمَّلتْ أَبي بصبرٍ، وأَنـجبَت له سبعة أَولادٍ لم يبلغ منهم سنَّ الرُشد سوى ثلاثة. وبين أَسوإِ مـمارساته: بَيعُهُ يومًا أَثوابَ أُمي كي يَـفي إِحدى الـحاناتِ ديونَه الـمتراكمة.
والدي أُستاذ فاشل
في طفولتي قرَّر أَبي أَنْ لا فائدةَ من الـمدرسة. كان يأَسرني في البيت كي أَتعلَّمَ العزفَ على الكمان أَو الـهارﭘْــسيكُورد (بالإِنكليزية harpsichord، بالفرنسية clavecin. آلةٌ موسيقية سبقَت الـﭙـيانو شَكلًا وملامسَ. أَنغامها قويةٌ يصعب التحكُّمُ بـحِدَّتها). ومن تلك “الدروس” الفوضوية غير المنتظمة، بقيَت لديَّ، خصوصًا في الإِملاء والرياضيات، أَخطاء كثيرة كان يمكنني تلافيها لو كانت “الدراسة” الوالدية منتظمة ومفيدةً في الموسيقى. فـــ”دروسُه” الموسيقية سبَّبت لي عذابًا جُلجُليًّا. كان ضيِّقَ النَفَس، سريعَ التوتُّر: يَشتُمُني ويَصفَعُني لأَقلّ غلطة في النوطة الموسيقية، أَو إِذا مرةً حاولتُ الارتـجال.
ولكي يوهِم الناس أَنني ولدٌ متفرِّد، زوَّرَ تاريخَ ميلادي مُسَبِّقًا إِياه سنَـتَين. كنتُ في الثامنة حين قرَّر أَن يَعْرضني للجمهور فأَرغمَني على العزف في بونّ (مدينة أَلـمانية على ضفاف الراين أَحدِ أَطولِ أَنهار أُوروﭘـا) وفي كولُونيا (رابع أَكبر مدن أَلـمانيا بعد برلين وهامبورغ وميونيخ). لم يأْبه أَحدٌ لي في ذاك العزف، ولا شجَّعني أَحد. وأَصابني هَلَعُ خَوفَين: من أَبي ومن الـجمهور.
ماتت أمي قهرًا بسببه
عند وفاة أُمي بالسلّ، أُصيب أَبي بالانهيار وتفاقَمَت ديونُه. تدخَّلْتُ لدى بعض الـمسؤُولين كي لا يُعتَقَل بتهمة السُكْر الـمتواصل. كان يُشيع أَنه ضحيّة، ويُـحمِّلني الذنْب، ويتلذَّذ بتعذيبي نفسيًّا.
ظلَّ عشرين سنةً عبئًا ثقيلًا عليَّ حتى مات فجأَةً بنوبةٍ قلبية.
بَكَيتُهُ؟ الأَبُ يُبكى عليه، حبًّا أَو مرارةً.
حتى في مأْتـمه لم يوفِّره الـمتهكِّمون. أَحدُهم قال: “الآن، مع موت يوهان، ستقل مداخيلنا من الخمر”.
يومها، لدى خُروجي من الكنيسة، تَـحوَّلَ خجَلي إِلى رهان: لأَنَّ اسمَ أَبي كان يثير التهكُّمات، سأَنتقم برفْع اسم “بيتهوﭬِـن” إِلى الصف الأَول بين كبار الـموسيقيين.
اليومَ، مع بلوغي غروبَ حياتي يمكنني، بضميرٍ مرتاح وجبينٍ مرفوع، أَن أَقول إِنني ربـحتُ الرهان!