“الشعر لن يموت، وإبداع الروح لن يموت،
ما دامت الأرض حيّة، وما دُمنا عليها،
ما دام البشر يستقبلون صوت الطبيعة بقلوبهم،
لا قوّة يمكنها أن تطفئ جذوة الشعر.
الشعر لن يموت، ما دامت الروح ترنو
إلى حيث لا يمكن للعين أن تصل،
فهو يتفلّت من ضيق الحدود إلى رحابة الأفق،
ليُفهِمنا كل ما هو سما
تحتفل الأوساط الأدبية الأوكرانية في العام الحالي بالذكرى الخامسة والسبعين بعد المئة لولادة الكاتبة الأوكرانية أولغا دراغمانوفا كوساتش، الشهيرة باسمها الأدبي أولينا بتشيلكا (1849-1930). أول ما يتوارد إلى أذهان الأوكرانيين أنها والدة الشاعرة الأكثر شهرة في أوكرانيا ليسيا أوكراينكا (1871-1913)، إلا أن أولينا بتشيلكا لعبت دورًا تأسيسيًا في الأدب الأوكراني كتابة ونظمًا وترجمة ونشرًا، إلى جانب قيادتها الحركة النسائية في بلادها، ويرى الباحثون أنه من الإجحاف اختصار مسيرتها الطويلة بكونها والدة ليسيا أوكراينكا، أو “صاحبة الجلالة”، كما أسمتها ابنتها احترامًا حينًا وسخرية حينًا آخر.
نشأت أولغا في عائلة قوزاقية نبيلة. تلقى والدها، وهو مالك أراض من بلدة صغيرة، تعليمًا قانونيًا في العاصمة القيصرية سان بطرسبورغ، وبعد عودته إلى منزله في غادياتش، مارس المحاماة إلى جانب اهتمامه بالأدب والإثنوغرافيا. نشر قصائده وترجماته لأعمال لامارتين وشاتيوبريان في دوريات العاصمة. كانت والدتها ابنة أحد ملاك الأراضي في المقاطعة، وقد كانت هدية زواجها كبيرة، حيث زادت ملكيتها عن 340 هكتارًا، بالإضافة إلى بستان ومنحل. تلقت أولغا تعليمها الابتدائي في المنزل، ثم درست في مدرسة الشابات النبيلات في كييف.
وتحت تأثير شقيقها الأكبر، ميخايلو دراغمانوف، انضمت إلى جمعية المثقفين الليبراليين “هرومادا” (المجتمع)، حيث التقت بزوجها المستقبلي، المحامي الشاب بيترو كوساش. بعد الزواج حين كانت في التاسعة عشرة من عمرها، انتقلت إلى مدينة زفياهيل (نوفوغراد-فولينسكي). هناك، نادى السكان المحليون أولغا باسم “أولينا”، فيما أطلق عليها زوجها لقب “بتشيلكا” (النحلة) بسبب قلقها الدائم، وهكذا ولد اسمها الأدبي.في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، كانت أولينا بتشيلكا قدوة مثالية لبناتها الأربع فربتهن تربية صارمة. في الملبس، لحقت أحدث صيحات الموضة في زمانها فكانت ترتدي فساتين عصرية منتفخة إلى جانب الأزياء الوطنية. لم ترغب في إرسال أطفالها إلى مدرسة مختلطة، علمتهم الموسيقى والرسم واللغات والتعبير.
المقاومة بالأدب
تبدو شطور قصيدة أولينا بتشيلكا حول خلود الشعر نبوءة بحد ذاتها، ففي عام 1876، حظر “مرسوم إيمسك” القيصري طباعة الكتب الأوكرانية واستيرادها والترجمة إلى هذه اللغة وإنشاء العروض الفنية بها، إلى جانب حظر تدريسها في المدارس النظامية.
أصيبت أولينا بالصدمة، فعاندت المرسوم وأضافت إلى مهماتها المنزلية العمل على ترجمة الكلاسيكيات إلى الأوكرانية من الألمانية والدنماركية والفرنسية والبولندية والروسية، وحين خذلتها المعاجم أضافت ألفاظًا جديدة إلى الأوكرانية المحكية. كما نشرت في العام عينه عملها الفلكلوري “الزخرفة الشعبية الأوكرانية”، الذي لا يزال يحظى بشعبية حتى اليوم. سرعان ما غدت أولينا بتشيلكا شاعرة معروفة ونشرت ديوانها الأول حين كانت في السابعة والثلاثين، ثم انضمّت إلى الحركة النسائية ونشرت رواياتها المناصرة لحقوق المرأة، ومنها “يوديتا”، “أولينا القوزاق”، “ديبروفا”، وتوجت تلك المسيرة بنشر رواية “الرفيقات” في ستانيسلاف عن طالبات جامعة زيورخ، عام 1887.
في صراعها الدائم لنصرة “اللغة الأم” شاركت أولينا في الأنشطة الاجتماعية. في كييف، لم يكن هناك سوى عدد قليل من عائلات المثقفين الذين يتحدثون بهذه اللغة، فقررت توحيدهم تحت سقف ناد أدبي حمل اسم “رودينا” (“العائلة” بالأوكرانية). لم يبال المسؤولون بادئ الأمر، طالما أن النادي يحمل اسم “وطن” (بالروسية)، لكن أنشطته سرعان ما جذبت انتباه الحكومة القيصرية، فخضع النادي منذ عام 1877 لمراقبة الشرطة السرية لكن ذلك لم يثن أولينا عن عملها. في عام 1903، شاركت في تنظيم حفل كوتلياريفسكي في بولتافا، حيث ألقت خطابًا بالأوكرانية على الرغم من الحظر. وعندما بدأت الثورة الروسية الأولى، سافرت أولينا، ضمن وفد المثقفين الأوكرانيين، إلى العاصمة سان بطرسبورغ للمطالبة برفع الحظر المفروض على الطباعة والتدريس باللغة الأوكرانية في المدارس.
مرت أولينا بتشيلكا بمسار إبداعي طويل وشاق، فعلى الرغم من العراقيل الكثيرة في طريقها، ظلّت وفية للمثل الإنسانية، ورسخت مواقفها الواقعية والقومية، وسعت بإبداعها وأنشطتها الاجتماعية إلى خدمة الأدب والثقافة المحلية وتعزيز حضورها. ولعل تأثيرها الأكبر كان بتوجيه ليسيا أوكراينكا، التي تدين لوالدتها بحب الأدب وتاريخ العالم ومعرفة اللغات الأجنبية. من الواضح أنه عندما بدأت ليسيا في نظم القصائد لعبت والدتها دور الرقابة، فأطلقت عليها الابنة لقب “الملكة – الأم” و”صاحبة الجلالة”. بالنسبة إلى أولينا، اعتبرت هذا الأمر مفروغًا منه، فكتبت: “لا أعرف ما إذا كان ليسيا وميخايلو ليغدوا كاتبين أوكرانيين لولا ذلك؟ ربما كانا سيفعلان لكن بعد فوات الأوان. في الواقع، كنت دائمًا أحيط الأطفال باللغة الأوكرانية لتكون الأقرب إليهم”.
تحت تأثير أولينا، تتعززت موهبة ليسيا الشعرية ونظرتها الواقعية إلى العالم، وتشكلت شخصيتها الشجاعة ذات الإرادة القوية. ورثت من والدتها كراهية الظلم وحبّ الوطنية العميقة، وتجدر الإشارة إلى أن الابنة ليسيا كانت تتشارك مع والدتها في كثير من الأحيان خطط أعمالها الشعرية والدرامية وقصصها وأقصوصاتها.