منير الربيع – المدن
على مدى ثلاثة أشهر من القتال والمواجهات في إطار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، كان الانسياق طبيعياً وراء مواكبة المعارك ونتائجها ويومياتها وتفاصيلها، وذلك في إطار مراقبة الأهداف الإسرائيلية وكيفية منعها من تحقيقها. عمل الإسرائيليون على إعلان أهداف كبيرة وكثيرة، بعضها يستحيل تحقيقه حتى الآن، طالما أن المقاومة الفلسطينية مستمرة بالقتال. في الأيام الأولى لعملية طوفان الأقصى، كان المعيار واضحاً بالنسبة إلى كثيرين بأن اسرائيل ستلجأ إلى تكثيف عملياتها الجوية وغاراتها من دون اللجوء إلى الاجتياح البري. وفيما بعد تحوّل المشهد، وعلى وقع تحوله كان الانتظار مشروعاً لمسار “وحدة الجبهات” وكيفية تطبيقها، لمنع اسرائيل من تحقيق الاجتياح البري. انشغل العالم العربي واللبنانيون أيضاً بمعارك “المشاغلة” أو المساندة في جنوب لبنان. لكنها لم تشغل الإسرائيليين عن الاجتياح والتهجير، ولم تساند سكان قطاع غزة من أجل الصمود والبقاء.
التدمير الممنهج
وسط الإنشغال بيوميات المعارك، يبقى هناك قصور في التعبير عن حقائق الوضع الميداني في غزة. إذ أن التطورات الحاصلة لا بد من النظر إليها أبعد من السياق اليومي والحدثي المرتبط بالمواجهات التي تخوضها المقاومة الفلسطينية بقوة، وبقدرة التصدي على الاقتحامات. ولكن هناك حالة إنكار عامة لكل ما يجري، خصوصاً لدى الإرتكاس إلى مبدأ أن إسرائيل تفشل في تحقيق أهدافها. ولا بد من إعادة النظر في الأهداف الإسرائيلية، على الرغم من المشاكل الداخلية المفتجرة لديها، وستنفجر بوجه حكومة نتنياهو لاحقاً، علماً أن التوحش الذي يرتكز عليه يحاول التخفيف من وطأة المحاسبة، وعلى الرغم من الخسائر الكبرى التي تمنى بها اسرائيل.
إلا أن التدمير الممنهج، والقتل المتعمد يرتبط بالأهداف الإسرائيلية، والتي ليست بالضرورة أن تكون نفسها الأهداف المعلنة، علماً أن الأخيرة مرتفعة السقف، من سحق حماس عسكرياً إلى تحرير الرهائن بالقوة. ما تقوم به اسرائيل هو جعل غزة غير قابلة للحياة وتهجير الناس. وهنا يظهر تقدّم في سبيل تحقيق هذا الهدف، بغض النظر عن حجم الخسائر الإسرائيلية وقدرة المقاومة على الصمود. وما ستقوم به اسرائيل، هو تهجير قسم من الناس على الأقل، وإنشاء منطقة عازلة داخل أراضي القطاع، بالإضافة إلى إضعاف قدرات حماس العسكرية والسياسية.
الرؤيتان الأميركية والإسرائيلية
بالتأكيد أن المقاومة لا تزال قادرة على إطلاق الصواريخ والإستمرار في المقاومة. إلا أن المفاوضات السرية غالباً هي التي ستنجح على حساب المعارك العسكرية. وخطورة ذلك هو سريتها. ما يعيدنا بالذاكرة إلى تجارب سابقة، منحت اسرائيل فرص تحقيق أهداف سياسية واستراتيجية بالتفاوض السياسي وليس بالمواجهات العسكرية. من هنا، لا بد من التخوف من احتمال أن يكون التركيز الإعلامي على الانتصارات والاستمرار في شن القتال، هو محاولة للتغطية على ما تشهده المفاوضات السرية، والتي قد تنطوي على مخاطر ذات طابع استراتيجي على المدى الأبعد.
هناك انعدام للتطابق في الرؤية الأميركية الإسرائيلية، خصوصاً بما يتعلق بحلّ الدولتين، على الرغم من انعدام الثقة في إمكانية تحقيقه. بالإضافة إلى الضغط الدولي في سبيل إعادة تشكيل القيادة الفلسطينية، والوصول إلى تفاهم حول واقع يضبط وضع قطاع غزة، بالتوازي مع ضبط الوضع في الضفة الغربية، ومقابل الضغط على الإسرائيليين دولياً لتقديم تنازلات بما يتعلق بسياسة الاستيطان وممارسات المستوطنين. وهذا بحدّ ذاته سيكون بحاجة إلى إعادة تشكيل السلطة في اسرائيل.
سحب الأسطول
في هذا السياق، يأتي الإعلان الأميركي عن سحب الأسطول الحربي من شرقي البحر المتوسط. وهذا له أكثر من تفسير. الأول، أن يكون الاطمئنان الأميركي قد بلغ مداه حول انعدام التصعيد من قبل إيران وحزب الله. والثاني، هو إيصال رسالة اعتراض لإسرائيل بانعدام القدرة على الاستمرار في تغطيتها. أما الثالث، هو أن تكون المفاوضات تحقق تقدماً بما يتعلق بالمسار السياسي ربطاً بكل الطروحات التي تقّدم على مستوى دول المنطقة. أما الرابع، فقد يكون مرتبطاً بتطورات البحر الأحمر والاستعداد الأميركي لإنشاء تحالف هناك لحماية الملاحة.
كل هذه التطورات لا يمكن فصلها عن المسار اللبناني. فالضربات مستمرة ولكنها خاضعة لسقف منضبط. وهي مدروسة ومترافقة مع استمرار المفاوضات الأميركية حول تسوية الوضع اللبناني، بناء على هذه المباحاثات السياسية التي يقودها المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين، في محاولة لتجنّب الحرب وإنجاز اتفاق سياسي مشابه لاتفاق ترسيم الحدود البحرية.
ولو لم تكن المفاوضات تتقدم، لما كان النقاش كله يتركز على القرار 1701، وترسيم الحدود البرية. ولما تكررت مواقف المسؤولين الإسرائيليين بأنهم سيعملون على إعادة الأمن لمستوطناتهم الشمالية بالديبلوماسية والحلّ السياسي، وأنه بحال فشلت فسيتم اللجوء إلى الحلّ العسكري.
لذلك، لا بد من النظر إلى بواطن المفاوضات وما تحمله، لتجنّب الخسائر التي ستنجم عن اتساع رقعة المواجهات.