
اليوم أتممت نصف قرن من عمري، نصف قرن كنت فيه شاهدًا على المآسي والنكبات في وطني، نصف قرن لم المس فيه بهاء مدينتي الذي حدثني عنه أبي. جواز سفري أتعبته صراعات لا تنتهي وتهم الإرهاب والتهريب والممنوعات وانتهاك سلطان القانون، وضمور الدبلوماسية وخروجنا من خريطة الابداع. نصف قرن كنت فيه شاهدًا على قفزات علمية لم تكن حصتي فيها سوى الاستهلاك وإذا لمع نابغةٌ من بلادي لا نسمع باسمه إلا صدفة. كل هذا والدين السياسي يزج بنا في حروب عقائدية ماورائية نقبع في أتونها نَقتُل أو نُقتَل ونقدس مفاهيمنا أصنامًا ثابتة، ليصير حتى ثباتنا، إلى حتمية التخلف وبالتالي الهزيمة مع تقدم الآخرين وتطورهم.
نهج الإسلام السياسي هذا لم يعفِ طائفتي، فبينما أرفض ورفاقي شمولنا بمحور ونؤكد انتماءَنا إلى الدولة اللبنانية وتحررنا من الاصطفاف الاقليمي، يطل علينا خطاب مما قبل التاريخ الجلي، يلقيه رئيس مجلس ديني علوي يربطنا بمحور لا يعنينا ولا نعنيه إلا بقدر ما يستطيع أن يستثمر بمآسينا. في خطاب الاصطفاف البشع أورد الخطيب طائفةً رغمًا عنها مورد التهلكة والتبعية.
لا يا سماحة الشيخ، لسنا على العهد وليسوا العهد ولم يكونوا يومًا على العهد ولا يجوز أن تعتلي المنابر وتختصر طائفة ممتدة من بر الأناضول إلى قرية الغجر، ومن أذربيجان إلى الأميركيتين لتربطها بمحور الخروج على شرعية الدولة ولا يجوز اختزال الطائفة بحزب ما.
قبلتها مني أم لم تقبلها فأوعزت باستنفار مناصريك، كما جرت العادة، فإن واجبي الأخلاقي يملي عليّ أن أتبرأ من خطابك، فعباءتك يا شيخ وعمامتك ليستا ملكًا لك وإنما للطائفة، ولا يحق لك أن تلزم الطائفة برأيك وإذا اعتنقت عقيدةً سياسيةً فإنها تلزمك شخصيًا دون صفتك التمثيلية، صفةٌ لا يستقيم معها الانتماء السياسي وعليك اختيار إحداهما، فإذا عزمت فالزم.
أرضيت يا شيخ ان يعتبر الشيخ نعيم قاسم وجودَنا “تفصيل”؟ وان يتهمنا أزلامه بالخيانة؟ وان يُنَظِّر مأجوروه بانتفاء جدوانا الاقتصادية وكأنهم يدللون علينا في سوق النخاسة؟ ورضيت أن يتجاهلوا المجازر التي وقعت بنا؟ كل ذلك لا تبرره حساباتٌ خاصة.
أيصح وأنت تمثل الطائفة أمام الدولة أن تصطف مع من تجرأ على هيبة الدولة وسلطان القانون فيها؟ أيجوز لك أن تصطف مع من يرفض الالتزام بشرعيتها الدستورية فتكون ومن ارتكب جرم التحقير بحق رئيس الحكومة في نفس الاصطفاف؟
لا لسنا على العهد، وليسوا العهد ولم يرقبوا فينا إلا ولا ذمة، وأساؤوا إليك فيما كنت تصطف مجانًا في سوق عكاظهم.
سرقوا حتى جراحه! وأنت ضحيت بما تبقى من دمائنا وكرامتنا لتناصر من لم يقم وزنًا لخطابك وأوقف بثّه، ولجأ مناصروك إلى شائعات لتخدير مجتمع أنهكه الظلم والخيبات والخيانة.
بالرغم من سوق عكاظ ودواوين الشعر الرديء الثلاث، بالرغم من المناصب والمصالح، العلوي في لبنان هو مواطن لبناني دفع منفردًا فاتورة جمهورية الطوائف، لم يسنده أحد ولم يضمد جراحاته أحد. العلوي اتخذ خياراته برجولة ودفع ثمنها برجولة، ليس غبيًا ولا كبش فداء، ولا يحق لأي كان أن يصادر قراره، وقرارنا أن نكون أحرارًا، بعرق جبيننا نأكل خبزنا، ولا يحق لأي كان أن يحتكر سياسة الطائفة، فالطائفة شأن ديني اجتماعي، وليست شأنًا سياسيًا، هذا منهاج النبوة، فرسول الله (ص) أرسى دستورًا مدنيًا نظّم دولة المدينة، فجاءت صحيفة المدينة إبداعًا تقدميًا سبقت الــ Magna carta بستمائة عام، نهج تابعه الامام الحسن (ع) فجاء في صلحه: “لا تفتي بفتيا، ولا تقضي بمسألة، ولا تتسمى بأمير المؤمنين، لك منها السلطان الدنيوي”، فكان النصان إلزاما يمنع على العلوي خلط الدين بالسياسة، فالسياسة إن خالطت الدين أفسدته، والدين إذا انفصل عن السياسة أصبح وازعها الأعلى، أما إذا تدحرج متولي الشأن الديني إلى هضبة المصالح السياسية، نَافِجاً حِضْنَيْهِ بَيْنَ نَثِيلِهِ وَمُعْتَلَفِهِ سيكون كرَاكِبِ الصَّعْبَةِ إِنْ أَشْنَقَ لَهَا خَرَمَ وَإِنْ أَسْلَسَ لَهَا تَقَحَّمَ. وأختم بأبيات لأبي الطيب:
وَإِنّي لَمِن قَومٍ كَأَنَّ نُفوسَنا
بِها أَنَفٌ أَن تَسكُنَ اللَحمَ وَالعَظما
كَذا أَنا يا دُنيا إِذا شِئتِ فَاِذهَبي
وَيا نَفسُ زيدي في كَرائِهِها قُدما
فَلا عَبَرَت بي ساعَةٌ لا تُعِزُّني
وَلا صَحِبَتني مُهجَةٌ تَقبَلُ الظُلما