خلدون الشريف – نداء الوطن
وكأنّ التاريخ يعيد نفسه، هذا الانطباع الذي تكوّنه متابعة التطوّرات في لبنان والمنطقة اليوم. فبعد اغتيال الرئيس المصري أنور السادات في العام 1981، في أعقاب توقيع اتفاقية كامب ديفيد 1979، تلقّف الرئيس السوري حافظ الأسد العمل الأميركي الحثيث على عقد مؤتمر للسلام، فأراد أن يُمسك بالساحتيْن الفلسطينية واللبنانية في مشروع «وحدة المسار والمصير». وفي العام 1982 حاول الإسرائيليون التخلص من المقاومة الفلسطينية عبر اجتياح لبنان وصولاً إلى عاصمته بيروت في عملية كلّفت لبنان ويلات وحروباً لم تنتهِ بعد.
ويأتي اليوم مشروع فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني للمنطقة ليطرح توحيد الجبهات من فلسطين إلى لبنان فسوريا مروراً بالعراق، في خطوة تمهّد إلى تطوّرات قد لا تحمد عقباها.
لبنان ووحدة المسار والمصير
بعد اجتياح الصهاينة لبنان ازدادت هواجس الأسد الذي واكب خروج «منظمة التحرير» وقائدها من بيروت إلى تونس معتقداً أنّ الساحتين اللبنانية والفلسطينية قد آلتا إلى قيادته. إلاّ أنّ أبا عمّار كان أقرب إلى الرئيس العراقي صدام حسين منه إلى الأسد فعاد من بوابة الشمال طرابلس لإعادة تشكيل مقاومة فلسطينية. لم يرق الأمر للسوريين، فاندفعوا إلى شق الحركة الأم «فتح» في العام 1983 عبر تأسيس «فتح الانتفاضة» في خرق مهّد لمعارك في البقاع وأخرى في طرابلس التي خرجت مصفاتها، أهم منشأة لاقتصاد المدينة، عن الخدمة، كما وتعرّض مرفأها لقصف دمّر منشآت أساسية فيها إلى سفن عديدة كانت راسية فيه. وهكذا، أخرج أبو عمار من طرابلس برفقة 4500 مقاتل بمواكبة فرنسية، اندلعت بعدها «حرب المخيمات»، بين العاميْن 1985 و1988، بين فتح الانتفاضة، و»الجبهة الشعبية – القيادة العامة» و»حركة أمل» الموالية جميعها لسوريا وحركة فتح الموالية لعرفات.
بالعودة إلى العام 1982، دخلت إيران على الخط من خلال تشكيل تنظيميْن مقاوميْن، الأول شيعي أصبح «حزب الله»، أمّا الثاني فسنيّ في طرابلس وقد سُمّي بـ»حركة التوحيد الإسلامي». الاختراق الإيراني للساحة الطرابلسية استفز السوريين الذين أرادوا إنهاء الحالة الإيرانية السنيّة الشماليّة المتقاطعة مع أبي عمار. وهذا ما حدث في أيلول العام 1985، فاشتعلت حرب ثانية في طرابلس دمرت مناطق سكنية واسعة وأدت إلى عودة الجيش السوري إلى المدينة بكاملها وإحكام الأمن السوري سيطرته على مفاصلها.
سوريا تعزز وجودها في لبنان
بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد في العام 1979 وسقوط الاتحاد السوفياتي، واحتلال العراق للكويت، وحصول انقسامات عربية كبرى، ووقوف منظمة التحرير إلى جانب الرئيس العراقي، فُرِضَ حصار مالي وسياسي محكم على المنظّمة التي فقدت الكثير من التضامن العربي الرسمي وخاصة الخليجي. في المقابل، عززت سوريا موقعها العربي عبر مشاركتها في التحالف الواسع لتحرير الكويت الذي رسخ حضور الأسد العربي وأفضى إلى تنفيذ اتفاق الطائف لصالح تمكين النفوذ السوري في لبنان. في خضم هذه التطورات، التقطت الولايات المتحدة الفرصة لعقد مؤتمر دولي للسلام في مدريد 1991 ما مهّد وسهل توقيع اتفاق أوسلو في 13 أيلول من العام 1993. وليس هذا الاتفاق إلاّ ثمرة التراكمات السابقة، وها نحن اليوم نعيش مرحلة مشابهة وسط تغيّر للاعبين.
الهلال الشيعي وتوحيد الجبهات
في العام 2004 حذّر العاهل الأردني، الملك عبد الله الثاني من نشوء هلال شيعي. وبعد أحد عشر عاماً، تُرجم تحذيره عملياً، إذ قال وزير استخبارات إيراني سابق في حكومة الرئيس محمود أحمدي نجاد، حيدر مصلحي، عام 2015 إنّ إيران تسيطر على أربع عواصم عربية، وعنى وقتها صنعاء وبغداد ودمشق وبيروت. واليوم، أصبح الهلال الشيعي أمراً واقعاً، ففي خطابه في يوم القدس العالمي في العام 2021، أعطى المرشد الإيراني السيد علي خامنئي إشارة انطلاق مشروع وحدة الساحات الفلسطينية قائلاً: «الفلسطينيون، سواء في غزة أم في القدس أم في الضفة الغربية وسواء كانوا في أراضي 1984 أو في المخيّمات، يشكّلون بأجمعهم جسداً واحداً، وينبغي أن يتّجهوا إلى استراتيجية التلاحم».
وبالفعل، بعد ثلاثة أيام، ونتيجة اعتداء اسرائيلي على منطقة الشيخ جراح، وإصدار المحكمة العليا قراراً بإخلائها من الفلسطينيين، ونتيجة الاعتداء على الأقصى والمصلين، أعطى محمد الضيف، القائد العسكري لـ»حماس» مهلة لم يلتزم بها الإسرائيليون، فانطلقت معركة «سيف القدس» التي دامت أحد عشر يوماً. وفي شهر آب من العام 2022، خاضت حركة «الجهاد الإسلامي» معركة أسمتها «وحدة الساحات» رداً على اغتيال قائد المنطقة الشمالية في «سرايا القدس» تيسير الجعبري. وفي أواخر آذار الفائت، حصلت عملية «مجيدو» التي ما زالت تثير الحيرة حتى اليوم. وبحسب الرواية الإسرائيلية، تسلل مقاوم أو أكثر من لبنان إلى الأراضي المحتلة، بعد ظهور واسع لـ»حزب الله» في منطقة القرار 1701 ونشاط مكثّف لجمعية «أخضر بلا حدود».
رسالة إسرائيلية إلى دمشق
لم يكد حبر اتفاق بكين بين السعودية وإيران يجف حتى انطلقت حملات منسقة من فلسطين وسوريا ولبنان لمواجهة الغطرسة الاسرائيلية في الأقصى، والاعتداء على المصلين ومحاولة تدنيس أولى القبلتيْن وثالث الحرميْن. وترافقت الحملات الإسرائيلية مع إطلاق صواريخ من لبنان أولاً ومن سوريا ثانياً باتجاه الأراضي المحتلة تبعها الترويج لفيلم دعائي قصير بعنوان «وعد الآخرة» يظهر غرفة عمليات مشتركة تضم قوى محور المقاومة. ومن المؤكد أنّ صنعاء تأخذ مسارها للخروج من محور إيران إلى الوسط، ولعل هذا الخروج هو ما دفع مكوّنات المحور الأخرى لإظهار تكاملها ووحدتها في مواجهة إسرائيل.
اختارت إسرائيل أن ترد على إطلاق 34 صاروخاً من لبنان عبر ضرب أهداف هلامية، غير أنّ ردّها في سوريا جاء مختلفاً. فبحسب تقرير نشره موقع «يديعوت أحرونوت»، أُرسلت طائرات مقاتلة لضرب محطة رادار تقع شمال دمشق وقاعدة رئيسية للفرقة العسكرية السورية الرابعة، بعيداً عن مكان إطلاق الصواريخ. وجاء في التقرير: «قصف مركز للفرقة الرابعة جاء كرسالة إلى الحكومة السورية مفادها أن السماح للمجموعات المدعومة من إيران بحرية الحركة على طول الحدود، سيكون مكلفاً».
معارك بين الحروب يقابلها توحيد الجبهات
عملت اسرائيل منذ فترة ليست بقصيرة على الفصل بين المعارك، فإذا أرادت مواجهة «الجهاد» طمأنت «حماس» و»حزب الله»، وإذا ضربت في سوريا حيّدت «الحزب». واليوم، يبدو أنّ القرار اتُخذ لرسم قواعد اشتباك جديدة وبدا ذلك واضحاً في قول السيد حسن نصرالله لمناسبة يوم القدس العالمي إنّ «العدو يقسّم الساحات ويستفرد بالقطاع ويستفرد بالضفة ويقول إن هناك قواعد اشتباك وأقول للعدو هذه اللعبة خطرة لا في المسجد الأقصى ولا في كنيسة القيامة ولا في غزة ولا في سوريا ولا في لبنان وهو أجبن من الاعتداء على إيران، يجب أن نوجه تحذيراً واضحاً للعدو الإسرائيلي أن بعض انفعالاتك أو أعمالك الحمقاء في القدس أو الضفة أو غزة أو لبنان أو سوريا قد تجر المنطقة إلى حرب كبرى».
أي ثمن يدفعه لبنان؟
في سياق وحدة الساحات والجبهات وصمود ومقاومة الفلسطينيين، من المؤكد أنّ موازين القوى لم تعد لصالح إسرائيل لأسباب شتى منها الداخلي ومنها الخارجي. وبعد خطاب السيد حسن نصرالله الأخير والتحذير من حرب كبرى، يتساءل اللبنانيون الذين كوتهم تجارب العقود الماضية عن الثمن الواجب دفعه في ظل أسوأ ازمة مالية واقتصادية ووسط تخلي الاشقاء والحلفاء والأصدقاء عن بلدهم، وإعادة تشكّل مقاومة فلسطينية جديدة للانطلاق من الأراضي اللبنانية قوامها «حماس» و»الجهاد الإسلامي» المدعوميْن من «حزب الله» وإيران.
يوماً بعد يوماً، يفقد اللبنانيون قدرتهم على الصمود والتعلق بالحياة وسط عدم اكتراث القوى المحلية بمصالحهم وأرزاقهم وودائعهم وصحتهم ومستقبل أولادهم. أمّا الحزب الأقوى، فيركّز على تشكيل الجبهات وتعزيز القدرات العسكرية بعيداً عن الانخراط في تلمّس حلول للأزمات الداخلية المتناسلة، ولو أنّ كلاماً جديّاً يتردّد عن فتح قناة حوار سعودية مع «الحزب» استكمالاً لما جرى مع الحوثيين والعراقيين والسوريين بناء على نصيحة إيرانية تقضي بفتح قنوات لحلفاء إيران في المنطقة لاستكمال مسار المصالحة السعودية- الإيرانية.
فوّت المسؤولون اللبنانيون فرصة تلو الأخرى، فضعفت آمال اللبنانيين بالتوصل إلى حلول تنقذهم من أدران الانهيار والتقهقر، خصوصاً وأنّ المدخل الأساسي هو محاربة الفساد والتزام مشروع إنقاذ صندوق النقد وتفعيل القضاء وهيكلة المصارف وتحديد وظيفة لبنان المقبلة الاقتصادية والسياسية بشكل مختلف عما كانت عليه في العقود المقبلة. لنصبر ونرَ. إنّ غداً لناظره قريب.