ابراهيم بيرم – النهار
رئيس مجلس النواب نبيه بري والنائب.
كان مترقباً منذ زمن أن ينبري رئيس مجلس النواب نبيه بري ليقود بنفسه ويرمي بكل ثقله ورصيده السياسي في معركة الرئاسة الأولى نيابة عن محوره، واستطراداً أن يخوض غمار معركة ترئيس زعيم “تيار المردة” سليمان فرنجية لأن من أوصد أمامه كل أبواب الاحتمالات الأخرى وضعه وجهاً لوجه أمام خيار المنازلة حصراً.
الأشهر الخمسة من الشغور الرئاسي كانت حبلى ومثقلة بالمعطيات الكفيلة بأن يكون السياسي المخضرم راكم انطباعات ضافية وتقييمات كافية لتبيان رغبة الفريق الآخر في إدارة المواجهة حول الموضوع الرئاسي، مع المحور الذي قرّر بري وإنْ متأخراً أن يمسك براية القيادة لمشروعه، ويخرج الى الضوء مستعيداً كثيراً من الماضي حيث كانت الشراسة والضراوة أكثر طغياناً على أدائه والسلاسة والليونة أقل حضوراً خصوصاً في سنوات معاركه مع عهد الرئيس أمين الجميّل.
فجأة ومن دون أيّ مقدّمات وممهّدات يسهب بري في لقاء صحافي في الإفصاح عن أمرين حاسمين:
الأول: أن اسم مرشحه ومرشح المحور المنخرط فيه قد طرح من أجل أن يكون رئيساً مؤكداً على نحو تنتفي معه أي احتمالات أو حسابات أخرى.
الثاني: ما كان بري يلهج به في الغرف الموصدة والمجالس الضيّقة حول استحالة أن يسير في خيار إجراء تعديل دستوري في مجلس النواب يمهّد السبل أمام بلوغ قائد الجيش العماد جوزف عون الى قصر بعبدا الشاغر قد عمد الى تظهيره مرّة واحدة وأخيرة.
وبحسب المعلومات المتوافرة فإن الاستنتاج الاول عند بري أن “المرحلة التي يسعون الى فرضها علينا عنوة باتت تستوجب العودة الى أداء بري وسلوكه إبان ما قبل مرحلة انتفاضة السادس من شباط عام 1984” وصولاً الى عام 1991 أي صورة الرجل الذي يفصح عن الأمور كما هي خصوصاً أن بري ليس من النوع الذي يسهل “تزحيطه واستدراجه” عندما يقول إن مرشحه مرشح جدي كامل المواصفات فيما مرشح الآخرين “أنبوبي” للاستهلاك. فهو يعلم علم اليقين أن هذا الكلام من شأنه أن يفتح باب المشكل على مصراعيه وأنه يضعه وجهاً لوجه أمام رحلة مواجهة ضارية. فليس خافياً كما يقول زوّار عين التينة أن بري يعي تماماً أنه بهذا السلوك إنما يختار أن يعيد عجلة الزمن الى الوراء.
زوار عين التينة يخرجون أخيراً باستنتاج فحواه أن بري طفح كيله لأنه بات على يقين من أن ثمة مساعي ممنهجة يراد منها محاصرته ومحاصرة خياراته لأن أصحاب هذا المسعى يعتقدون أنه بات “ضعيفاً” ومحاصراً بأكثر من شبهة لذا يتعين العمل لتحييد فاعليته وحصر المواجهة مع “حزب الله” الشريك الثاني في الثنائية الشيعية لأن التصادم معه أكثر مردوداً لكونه يبقى الخاصرة الرخوة والحلقة الأضعف في الداخل والخارج. هواجس بري من بلوغ هذه المواجهة المفتوحة معه تعود الى انتخابات رئاسة المجلس في أيار الماضي عندما كاد الرجل يعاد الى الرئاسة الثانية مجرداً من أصوات مسيحية. ثم كانت الاشتباكات التي افتعلها في وجهه خصومه السياسيون إبان جلسات انتخاب الرئيس الـ11 والتجرؤ المتواصل عليه كسراً لهيبته والنيل من مكانته. وبعدها أتى اعتصام التغييريين الذي تعامل معه على أساس أنه “فعل عدواني” عليه وعلى المجلس وإن كان قد ردّ عليه باتخاذه ذريعة لإرجاء جلسات الانتخاب.
وفي أثناء ذلك كله ذهبت دعوتا بري الى طاولة حوار وطني أدراج الرياح بفعل معارضة “قواتية” ما لبثت أن اتسعت دائرتها لتمسي معارضة مسيحية كاسحة بعدما شملت “التيار الوطني الحر”. وفي أعقابها كانت عملية التعطيل لجلسة تشريع الضرورة التي دعا إليها بري وقد تنازل في سبيل انعقادها عن جدول الأعمال المنفوخ لتلك الجلسة من دون أن يجد من يلاقيه ويسهل الانعقاد.
وفي السياق التعطيلي عينه وجد بري أن فرط انعقاد جلسة اللجان النيابية المشتركة جزء لا يتجزأ من مسار محاصرته وإحالة المؤسسة التشريعية الى التقاعد والشلل لتلتحق بالرئاسة الأولى.
هذا على مستوى يوميات السياسة في الداخل، أما على مستوى عواصم خارجية على صلة وثقى بالوضع في لبنان، فاستشعر بري أن ثمة جهوداً داخلية ضخمة تتكامل وتتناسق مع جهود تُبذل في الخارج عنوانها العريض: إخراج معركة الرئاسة الأولى من أي تأثير يفرضه الثنائي الشيعي حتى إن اقتضى الأمر دفع الأمور في عموم البلاد في اتّجاه مناخات المنازلة ورفع منسوب الاحتدام والتعقيد خصوصاً إذا ما مضى هذا الثنائي قدماً لفرض مرشحه للرئاسة الأولى وتأمين ظروف وصوله الى قصر بعبدا.
وبحسب معطيات زوار عين التينة فإن من تولى هذه المهمة بشكل أساسي هو فريق “القوات اللبنانية” خصوصاً بعدما رفع رئيسها شعار: مهمتنا المركزية الآن هي سد كل الأبواب والمنافذ أمام مرشح 8 آذار مهما كلف الأمر.
هذا في المعلن والمكشوف، أما في المضمر والمستور فقد استشعر بري أن ثمة شعاراً رُفع وبوشر العمل على أساسه وهو: تحرير لبنان من أي تاثير للثنائي الشيعي أو الشيعية السياسية أو خفضها الى حدّها الأدنى وذلك بعد تطورات ثلاثة:
– إضعاف السنية السياسية وإفقادها دورها المحوري خصوصاً بعد انكفاء الرئيس سعد الحريري.
– فقدان الشيعية السياسية مظلتها المسيحية الواقية بعد انفراط عقد تفاهم مار مخايل.
– خسارة الشيعية السياسية الأكثرية المريحة في مجلس النواب التي كانت قد كسبتها في الانتخابات ما قبل الأخيرة.
وقد تكامل هذا الفعل كله مع ضغوط مورست في عواصم عدة معنيّة بالشأن اللبناني لكي تنضم الى الجهود الحائلة دون نجاح فرنجية في بلوغ قصر بعبدا.
وقبيل أيام أخذ بري نفساً عميقاً عندما أبلغته السفيرة الأميركية بأن بلادها لا تعارض وصول أي أحد الى قصر بعبدا فسارع الى تسريب هذا الخبر الى وسائل الإعلام معتبراً أنه تعزيز لأوراق معركته الرئاسية، خصوصاً بعدما عدّ نتائج اللقاء الخماسي في باريس وعجزه عن تسمية مرشح معيّن للرئاسة الاولى بمثابة فرصة.
لكن حسابات حقل بري تبدّدت أخيراً عندما حرص الخصوم على تسريب خبر اعتراض الرياض على ترشيح فرنجية خصوصاً أن بري و”حزب الله” كانا يقيمان على تقديرات فحواها أن ليس للسعودية مرشح تزكية وآخر ترفضه وأنها ما زالت في حال نأي بالنفس عن هذا الاستحقاق.
وبناءً على كل هذه الاعتبارات قرر بري أخيراً محاولة القبض على زمام الأمور قبل أن تنزلق من بين أصابعه والمضيّ الى المساحة الخشنة من هذه المواجهة منطلقاً من أن كلام الأمس ليس إلا أول الغيث وما زال عنده الكثير من الأوراق.