“فلكم يا أصدقائي/هي أنهار ضيائي/ وشرودي الأبيض، وغنائي… دحرجوا تجربتي حلمَ عطاءِ/لم يزل برعم عزمي وهوايا؟لم يزل يجهل أظفار الخطايا؟لم أزل أصغر منكم”.
عاليّة، 700 متر عن سطح البحر، تعني في السريانية “رأس الماء”، أو كما يحبّ أن يسميها القاص وليم الخازن “ضيعة الله”، ككثير من قرى البلد المفجوعة اليوم: ينابيع، وديان، جبال، مغاور، وتاريخ شاق وطويل. هي قرية رشميّا، والدة ثلاثة رؤساء للجمهورية اللبنانية: حبيب باشا السعد، بشارة الخوري، شوقي أبي شقرا. حتماً كان شوقي لِيبتسم على هذه الدعابة الحزينه، وهو الذي تخيل ذلك أصلاً:
“لو أنا رئيس الجمهورية، أرفع
الخيول نبلاء وأعطيهم سهولاً وحوافر
ذهبية وملاعق وسكاكين وشُوكا ومحارم
فضّية. وأعطيهم الإذاعة والحدائق
وأترك لهم شعرهم الطويل”
ودّعت رشميا مؤخراً، الناطق الشعري باسمها، وأحد ينابيعها إذ اعتادت هكذا بكل بساطة وحميمية على تسمية ينابيعها بأسماء أصحابها، ودعت ابن دركي المنطقة، الشاعر شوقي أبي شقرا (1935 – 2024).
طفل يلهو على عتبة الباب، قرب المصطبة في شمس العصر، والوالد في الداخل يتناول الغداء، فيدسّ رجليه خلسةً في البوط العسكري الضخم، ويحاول أن يصل إلى قبّعة الدّركي المعلقة، فتسقط من لمساته وتستقر على رأسه فيختفي داخلها، ثم يعلن بابتسامة وأسنان لبنيّة: أنا دركي الغابة، والمسؤول عن أمن مرور خط النمل عائداً إلى قريته بسلام وسكينة. هكذا كان شوقي أبي شقرا، ولو أنه حاول خداعنا طوال الوقت، بأنه ناقد خطير بحاجبين كثّين حادّين كأجنحة سنونو، وبأنه شاعر “جالسٌ على حافّة القصعين”. لقد كان من تسامحه أن يدّعي بأنه أصبح بالغاً، وينضمَّ إلى مجموعات الشعراء السائبين في بيروت، مجموعة “الثريا” ثم “شعر”. أصلاً هو لعله لم يجذبه غير العنوان أول الأمر: جميل، أنا عضو في الثريّا بالفعل، أنا نجم العيوّق.
هذا رجلٌ مات أبوه وهو صغير السن، فاضطر إلى أن يملأ مكانه، فترك في أعماقه فكرة أن يصبح رجلاً لنفسه، وبقي في الأعماق طفلاً يتيماً، فتبنّته طبيعة رشميا وتعهدت بترتبيته، كما فعلت مع الطحالب والتينة والحفّة الحجرية والسنديانة فربي ونما، ولا نجد تفسيراً أفضل من هذا لشاعريته، كما سيأتي.
إنه لمن غير المنصف، ولمن الجحود بمكان، أن تكتب عن شاعرٍ كأنّك تحاكمه، رغم أنني أعترف لك، إنه لمن الصعب أن تدخل مع الطفل في لعبته، فلا تدري لم ربحت ولم خسرت، فالمهم عنده أنك تلعب. ولقد كان هذا بأصله ديدن شوقي في النقد، انظر إليه يقول في إحدى مقالاته “الليل في الدروب لعمر النص” وهو مراجعة للكتاب: “نحن لسنا حراسًا ليليين نحمل حرابا وبنادق تخنق الشعراء المطلين بغير ورقة من عندنا”، لذلك فمن دِهن أبي شقرا نفسه سنجرب أن نُقلّيه، وعلى طريقته الحرّة سننقد ونشاركه في لعبه.
عن سؤال لماذا ينثر شوقي أبي شقرا (مقابلة مع سليمان بختي – المدن) يجيب: “هنا ألملم الأشياء التي تقع خارج السلطان، وهو لا يرى كل الأشياء. السلطان يرى وزيره وقائد الجند والمستشار. ولكن أنا من يرى العسكر والخدم وكل الذين يؤلفون الحياة الحلوة، وأردت أن أجسدهم وألتقطهم قبل أن يضيعوا”. فأول ما يطالع “القارئ بسلاحه الكامل” على حد تعبيره هو، أن شوقي ونصوصه تتقافز في يديك كالصابونة الزلقة، شكلاً ومضموناً. يهرب من السلطان في كل اتجاه، ويسكن الصورة المحضة، وكل قضاياه هي القضايا الصغيرة:
“ونتولّه بالأشياء الصغيرة
في غياب الكبيرة”
وغياب السلطان هو الشكل الفعليّ للثيمة الرئيسة في كل ما كتب: الطفولة، وسنثبت ذلك. وللحق، فالذي يحتكّ بكتب شوقي أبي شقرا أول الأمر، تلحّ عليه فكرة واحدة كفراشة ترتطم لانهائياً باللمبة: عمّ يتحدّث هذا الرجل بالضبط؟ دعك من الأجوبة الجاهزة من قبيل أنه يتبع المذهب السريالي في الأدب أو أنه الخطّ الشعري في مجلة “شعر”، نحن نريد أن نستفيد حقاً، وكما يقول شوقي (المقابلة السابقة): “لا تهمني الاتجاهات بقدر ما يهمني الشعراء، عندما يكون هناك شعراء حقيقيون يصير لدينا اتجاهات” فاتجاه شوقي الحقيقي هو عدم الاتجاه ضد المأسسة والقواعد والنظام، وهو انطلاق النفس كما هي، بالكلمات باعتبارها كائنات حية وامتداداً لأعضاء النفس وحواسها، لذلك تلحظ في نقده وشعره ومقابلاته، ذات الأسلوب والطريقة في التعبير، فتكاد تمّحي الفوارق بينها كأنها نسيج واحد، ويؤكد هو على ذلك قائلاً (عواصم ثقافية: بيروت: بين فنادق الثقافة وخنادقها – 1992، مجلة الناقد، العدد 44، 1فبراير 1992- ص 46) “حاربوني وأنا صغير، وكيف أنني بهدلت الموضوع الشعري، وأنزلته من سدة الرئاسة إلى سدة العامة، من هنا كانت البداية، الكلمة فشة خلق، لأنتقم من المؤسسة، أريد أن أخربطها، أن أضع جدتي في الخابية، تهلكني القواعد”، الرجل يريحك من النقد الناشف، والتوقع المضجر، يسلّم لك كل مفاتيحه لأنه ببساطة لا يوجد أبواب يخبّئ فيها شيئاً، إنما هي مغاور وحفافي وأعشاش زُرقط ويعاسيب، فقراءته تشبه نزهة في قرية لبنانية.
يدعوك كقارئ للانطلاق مباشرة، دون تحضير مثلما هو كل اللعب “الشعر كان لعبتنا المفضلة، وكانت بحد ذاتها إطارا للعيش (ص47 – المقال السابق)” أترى؟ ولعلك تتساءل عن حصتك أنت من “جرة عسل وجزدانا فيه حبق وقروش”، فعدني أخبرك. لم ينسَ أبو شقرا البالغين – النقاد الأكاديميين وغيرهم- فهو على المقلب الآخر، ناقدٌ مطّلعٌ قوي الثقافة، واسعها، فهو الذي نقّح ديوان السيّاب الذي يعد مفترق طريق في حركة الشعر الحر كما تعلم، ويعلن “أنا من كان يعمل “حدادة وبويا” لقصائد مجلة “شعر”… كنت مسيطراً على المجلة بلا مسدس… فلولا ملكتي لم تنوجد مجلة “شعر” بعمقها الشعري” (المقال نفسه، ص46) وهو صانع وصفات ملحق النهار “أنا مطبخ الملحق والصانع من الداخل، وأخذ ذلك مني عمراً. ومن خلال ملحق النهار تحولت الصحافة اللبنانية (ص47)”.
ومن الجدية المختبأة – ولنقل الآن أننا سنبدأ النقد – شكلُ نصه الشعري، وخذ مثالاً الوزن العروضي في كتابه “سنجاب يقع من البرج”(دار النهار، بيروت 1998) تجده متفاوتا بين منثور وموزون؛ على بحر الرجز القصائد: “شبعتا – أكلوا النعامة – الحوت – يئست كالماعز – الكنيسة – الباب العالي – يقترب – التلميذة – 7بحور – معلم السنونو” والباقي كله نثر. ولنا الحق كذلك في أن نكون جادين أكثر بعد ذلك، محاولين الاستفادة من المضمون الشعري؛ تذكر الباحثة في مجال أدب الطفل “كيمبرلي رينولدز” في كتابها (أدب الأطفال: مقدمة قصيرة جدا)، أن “مصطلح أدب الأطفال هو من المصطلحات التي يصعب ضبطها، وهو في تغير مستمر” وهنا نتساءل فعلياً بسبب إلحاح نصوص أبي شقرا على مساس الجهة الطفولية من كل قارئ، والتي تتبدّى في الزخم المعجمي للّعب والطبيعة، بالإضافة إلى التركيب المقتضب لجمله وعباراته التي تروي غليل اللحوح، وغير ذلك الكثير، نتساءل بموضوعية: ألا يصلح شعر أبي شقرا أن يكون أدب أطفال في جوهره؟ هل بدراسته وفق خصائص أدب الأطفال، تكون نتيجة ذلك إيجابية؟ يحتاج الأمر بحثاً متخصصاً، ولكننا سنطبق شيئاً من ذلك لكيلا تبقى حرقة في الصدور.
ولكي نفرغ من ظاهر النص، نحيل أولاً إلى التكرار الذي يواكب كل قصائده، فإنه من الصعب أن نرجع هذه الظاهرة إلى قواعد البلاغة في الأدب، فليس لها دور التكريس والانصباب لموضوع يهجس به الشاعر، ذلك أننا رأينا كيف أنه لا يتكوّم حول موضوع عامّ بالأصل، ولكننا نجد في تحليل التكرار في علم الجمال ونقد أدب الأطفال، مرجعاً معتبراً لتحليل تكرارات أبي شقرا. يشير الباحث في علم الجمال غيوم ستولنتيز إلى الألفة Familiarity التي يبعثها التكرار، وفي أدب الأطفال، للتكرار أهمية بالغة في بناء التهويدات الطفولية، وفي توحيد النص ككتلة عضوية واحدة، عدا عن اللعب الحر للطفل بالكلمات عبر ترديدها ودسّ المفردات العامية هنا وهناك، بل وإفساد بعض المفردات في بعض الأحيان، اقرأ هذا:
“أفبرك المرساة
أفبرك الحياة
يقترب العصفور
تقترب الحية والدبور”
بل واقرأ:
“تدحرج حجر
لا، إنسان
لا، فراشة
لا، قطة
لا، زهرة
لا، ممحاة
تدحرجت امرأة اسمها “لا” وانكسرت الجرة”
إن لم يكن هذا لعباً محضاً وتعداداً كما في أغاني أدب الأطفال، ولخبطة الشخصيات والأبطال فماذا يكون؟ وكيف نستمتع بقراءته إن لم يكن كذلك؟
أما في المضمون، يقول علي الحديدي – باحث ورائد في مجال أدب الطفل في كتابه (في أدب الأطفال)– “حيثما توجد أمومة وطفولة آدميّة يوجد بالضرورة أدب أطفال” ونحسم أن الطفولية الآدمية تعمر نصّه تماماً. وأوضح تمثيل لذلك هي الرغبة الطفولية في سكنى الصورة، تلك التي يعلن عنها الناقد الفرنسي غاستون باشلار “ففي تأملات الطفل، الصورة تسبق كل شيء، والتجارب لا تأتي إلا بعد”. ومن ذلك:
“ونهيل التراب على أقدامنا،
على قاماتنا علّنا
نسطع في الظلام وننبت ذات مساء”
هو همّ الطفل المعهود في أن يصبح كبيراً. وطبعه في الجمع بين الأشياء جميعاً دون أعذار وحجج:
“وأن تتفق الوردة
والأشواك والإنسان”
وهو طبع صناعة الأشكال من أي مواد متوفّرة، تعبث بهموم البالغين وقضاياهم الكبيرة، تسليةً لطفل ضَجِر:
“ونصنع العساكر من السكاكر ودفة الفضاء،
يجلسون على حافة المقاعد،
يسجدون على تيجان الأعمدة
لينطلقوا لينزلقوا موزاً إلى قبو السلاح،
إلى المهمّات والعوم في خليج الأتراح”
وهي فطرة الخوف من العنف والأهوال والأشرار، وإعلان البراءة:
“لا نقوى على الصيد،
نحن الفرائس كالعادة”
وأيضاً:
“سيدي المارد، لسنا العشاء، نحن نعزّك”
وأهم من ذلك كله، الاختباء والانعزال والسكون في أركان المكان المأهول في الذاكرة. وللأقبية في جماليات المكان، التي درسها باشلار بعناية، طابع حلمي معقد، يقود إلى حلم يقظة، وهو أثر طفولي بامتياز. ذلك أننا “إذا حددنا وظيفة أماكن العزلة هذه كملجأ للأحلام، فإننا نستطيع القول أن لكل منا بيتاً للأحلام، بيت ذاكرة الحلم. جماليات المكان، ص44” فهو يجعل القارئ بتعبير باشلار “بعيداً عنك الان، يصغي لذكرياته عن أب وجدة، عن أم وخادم، وباختصار عن الانسان الذي يسيطر على أحب ذكرياته – ص43”، والأكثر ألفة بالنسبة إلى شوقي في هذا المقطع هنا هو الحيوانات، الطبيعة والغذاء:
“بل سكنت الى السكون،
ونزلت الى قبو الصغر،
وانضممت الى حديقة البقر”
هذا، وفي المجال سعة وكلام. وقد أغفلنا شوقي أبي شقرا الناقد وطرقه ولغته النقدية، علّ يداً تمتد إلى هناك يوماً.
في النهاية، عاش شوقي وذهب إلى مكان آخر تصوّره ” أتوق الى البعيد والخيلاء، وأن أسوق الأحرف في البادية” تاركاً خلفه مصدر شعريته الأول، بلداً في قلب حربٍ سبق وأنهكت شوقي وأهلكته، نادى حصانه “قرّب وخذني من الخدمة العسكرية ومن الحرب”، لكنّه لم ينسَ أن يترك رسالةً دسها من تحت الباب يوصي فيها من يشبهونه:
“المهم أن تبقى شاعراً، الحرب لا تكرّسك شاعراً أو أي عنصر خارجي. الحياة أقوى: فالتقطها”.