ظاهر حكومة الرئيس نجيب ميقاتي أنها تشبه حكومة الرئيس حسان دياب، وباطنها يجعلها تشبه كل حكومات الوحدة الوطنية الثلاثينية التي أُوكل تأليفها إلى الكتل الكبرى. تختار وزراءها من بين الحزبيين، أو الطائعين الوثيقي الصلة بها. هذه المرّة تبدّلت المواصفات، من غير أن تتبدّل مرجعية التعيين والسلوك المنقاد. بذلك يسع الكتل الكبرى، الموكل إليها منح الحكومة الجديدة الثقة، الاطمئنان إلى المرحلة المقبلة بما لا يجعلها تخرج من تحت إبطها.

عندما صدرت مراسيم حكومة دياب في 21 كانون الثاني 2020، من 20 وزيراً اختصاصياً، اثنان منهم فقط مجرَّبان كوزيرين سابقين هما رئيسها ودميانوس قطار، فيما الباقون يُوزَّرون للمرّة الأولى، كانت من صنع الكتل الكبرى نفسها، اسماً اسماً، إلى أن خرج دياب على المحظور عندما أعلن تأييده إجراء انتخابات نيابية مبكرة. بوقوع انفجار مرفأ بيروت، دُعي إلى المثول أمام مجلس النواب لمساءلته، من دون أن يكون المسؤول الوحيد وأول المتورّطين، فاستقال وزراؤه تباعاً إلى أن سارع بدوره إلى التنحّي.
حكومة ميقاتي تشبهها إلى حد بعيد. أعضاؤها جميعاً يُوزَّرون للمرّة الأولى باستثناء رئيسها الذي سبق أن اختبر الوزارة مراراً، ورئاسة الحكومة مرّتين. على نحو مطابق، انبثق توزير هؤلاء من الكتل الكبرى نفسها التي سمّى رؤساؤها وزراءهم الذين يمثلونهم فيها، وإن من حملة شهادات عالية كأسلافهم. ليست شهاداتهم مفتاح اختيارهم، بل ثقة موزِّريهم بهم وامتثالهم لهم. بذلك يصحّ مرّة أخرى الاعتقاد بأن الكتل قد منحت نفسها بنفسها ثقة استمرار دورها في حكم البلاد. ليست حكومة حزبيين، ولا أحد من هؤلاء في صفوفها. بيد أنها حتماً حكومة الأحزاب ما خلا رئيسها غير الحزبي.
في ظاهر ما حدث أيضاً أنها حكومة اختصاصيين على غرار تلك التي كان سيؤلفها الرئيس سعد الحريري لو لم يعتذر، وعلى صورة حكومة دياب المستقيلة. على أنها تنتظر أن تجتاز الامتحان الأصعب الذي اخفق فيها سَلَفَا ميقاتي على التوالي: دياب عندما فشل في دقّ أبواب السعودية ودول الخليج كي تعترف به وتستقبله، وتساعد حكومته على تجاوز صعوبات لم تكن قبل سنة قد بلغت عتبة الكارثة. ثم من بعده الحريري – وإن رئيساً مكلفاً فحسب – متيقّناً من أن الأبواب العربية لن تفتح أبداً في وجهه، ولم يكن تضييق الخناق عليه وعلى عائلته قد بلغ ذروة كالتي تبدو نذائرها.

كلما ألّف ميقاتي حكومة، غاب الحريري عن لبنان طويلاً

بعض المعلومات تحدّث أخيراً عن أن الرياض طلبت قبل نحو ثلاثة أسابيع من أيمن، شقيق سعد، مغادرتها هو وعائلته بصفتهم غير مرغوب في وجودهم على أراضيها، بعد مصادرة منزله، على أن يتوجّه حصراً إلى أبو ظبي. نجم ذلك عن تدابير اتخذتها المملكة لاستيفاء ما يترتب لها في ذمة سعد الحريري وممتلكات شركة سعودي أوجيه البالغة 4 مليارات دولار أميركي، هي ديون على الشركة والشركاء فيها، بينهم أيمن شريك شقيقه. برّر السعوديون هذا الإجراء بأنه جزء من مسار قضائي بحت لا علاقة للسياسة به، مرتبط بديون في ذمة الرئيس السابق للحكومة الذي لا يزال يتمتع وشقيقه بالجنسية السعودية. آخر ما تبقى له من إرث والده المُهدَر. ليست في ذلك محنة الحريري فحسب. نشب أيضاً خلاف بينه وشقيقته هند بعدما طالبته بمبلغ 80 مليون دولار، هي حصص صغيرة لها في بنك البحر المتوسط وشركة سعودي أوجيه، متخلفاً عن تسديدها لها. قاضته في باريس، وحصلت على حكمين قضائيين بالتنفيذ الفوري. لأنه لم يفعل، حصلت على قرار قضائي ثالث بحجز طائرته الخاصة ما إن تحط في أي من مطارات الاتحاد الأوروبي.
عندما خسر تكليفه أمام ميقاتي عام 2011 بفارق ثمانية أصوات محضتها الغالبية النيابية لنائب طرابلس، ترك الحريري لبنان وغاب قرابة سنتين، قبل أن يعود على أبواب تكليف الرئيس تمّام سلام تأليف الحكومة عام 2013. ها هو السيناريو نفسه يتكرّر. غداة اعتذاره عن عدم تأليف الحكومة في 15 تموز، غادر الحريري بيروت متنقلاً ما بين أبو ظبي حيث عائلته ودبي.
قد تكون الرياض هي الامتحان الفعلي، الأول خصوصاً، للحكومة الجديدة ورئيسها، أول مَن يُفترض أن يعيد وصل الخيوط المقطّعة، ويوفّر ضمانات الاطمئنان التي يصعب التعهّد بها في ظلّ موازين قوى داخلية، اللاعب الرئيسي فيها حزب الله. لم يكن أسف رئيس الحكومة وحزنه، قبل أيام قليلة، على «انتهاك سيادة لبنان» من جراء إدخال نفط إيراني إلى الأراضي اللبنانية في معزل عن الحكومة الوطنية، سوى أحد مؤشرات تعذّر الإيفاء بتعهدات صارمة تطلبها المملكة من لبنان كي تساعده.
أولى الرسائل السلبية المعاكسة المعبّرة، مغادرة السفير السعودي وليد البخاري بيروت إلى المملكة، بالتزامن مع إعلان تأليف الحكومة الجديدة. في ما مضى، قالت المملكة، إبان تكليف الحريري، أنها تحكم على الحكومة الجديدة في ضوء تركيبتها وموقع حزب الله فيها. بانقضاء عشرة أيام على صدور مراسيمها، لم تقل الرياض بعد كلمتها فيها. بعض الوزراء الجدد تلقوا في الأيام الأخيرة مكالمات هاتفية من نظرائهم الكويتيين والقطريين، أو من سفيري الدولتين في لبنان، مهنئين وواعدين بالمساعدة في الوقت المناسب. لم يقللّ هؤلاء الوزراء من وقْع هذه المكالمات تصدر عن دولتين خليجيتين ثريتين، سخيّتين في الغالب على لبنان، تحرصان على الدوام على تمييز موقفيهما من الرياض. بيد أن المطلوب أكثر من ذلك. هو بالذات ما يُعوّل عليه رئيس الحكومة:
– لا عصبية شخصية وعناد وبغض متبادل بينه ورئيس الجمهورية ميشال عون كالذي تقاسمه الرئيس مع الحريري، ولا تصفية حسابات قديمة وجديدة بينه والنائب جبران باسيل. ما لم يقله عون لميقاتي، قاله قبلاً للحريري في عزّ الخلاف بينهما على تأليف حكومة الأشهر الثمانية المنصرمة: تكونان معاً – الحريري وباسيل – في الحكومة أو تكونان معاً خارجها. الأصحّ العامي في العبارة هذه: «رِجْله على رِجْلك وليس رِجْلك على رِجْلي».
– يعرف ميقاتي أنه رجل المرحلة المقبلة في السنة الأخيرة من ولاية عون. هو مَن يُفترض أن يجول على دول عربية وغربية طلباً المساعدة. وهو مَن يُفترض أنه مفاوض الهيئات والصناديق الدولية للاتفاق على إقرار الإصلاحات. لأنه الآن أثرى اللبنانيين، يسعه استعارة أول معيار اتكل عليه الرئيس رفيق الحريري عندما دخل إلى السرايا عام 1992: أن يكمن فيه مصدر الثقة.
– ليس لميقاتي الماضي المبهر لآل الحريري في المملكة. ليس له أيضاً حاضرهم المظلم والمكسور. ذلك على الأقل ما يتيح له محاولة دقّ الأبواب، من غير أن يتيقن من سهولة فتحها أمامه.